الأربعاء، 16 إبريل 2025

℃ 19
الرئيسية > أعمدة واراء > البرج العاجي: لماذا أتحاشى "الشِعرية"؟

البرج العاجي: لماذا أتحاشى "الشِعرية"؟

نشر في: 20 أغسطس, 2018: 12:00 ص

 فوزي كريم

أتحاشى، في الحقيقة، معظم المصطلحات النقدية العربية، لا "الشعرية" وحدها، التي شاعت في العقود الأخيرة (الأنشائية، الأسلوبية، الانزياح، البأررة، النسق، التناص..الخ)، حتى أنها لا تجرؤ أن تقفز سهواً إلى النثر النقدي الذي أكتبه. أتحاشاها لأنها قسرية، إيهامية، ولا تماس لها مع واقع النص العربي، ولا واقع كاتبه. وهي مخاتلة عن إرادة، أو عمياء عن غفلة. يطيب لها أن تنتسب ادّعاءً إلى تيارات النقد الغربي، وهي في الحقيقة تنتسب لموجة محدودة في الزمان والمكان من هذا النقد الغربي، نبتت في باريس، ثم قفزت إلى بعض الجامعات الأمريكية، وصارت تُدعى "بنيوية، وما بعد بنيوية"، و"تفكيكية، وما بعد تفكيكية"، أو بالجملة "مابعد الحداثة". ثم سعت الى أماتة المؤلف (عند بارت) والانسان (عند فوكو)، وطاشت، بتطرف لم يشهد تاريخ الأدب له مثيلاً، في إنكار العقل، العلم، المنطق، الموضوعية، المعنى، المعرفة. وكأن النقد الأدبي الغربي، الذي يتمتع بغنى سبق أن عرفنا اليسير منه، قد بدأ معها، وينتهي بانتهائها.
جميع المصطلحات التي تبناها الناقد العربي طلعت من لغة هذه الموجة الغربية المحدودة في تاريخها وجغرافيتها. وهي موجهةٌ إلى لغة هذه الموجة، وإلى حقل المعرفة التي تنتسب لها هذه الموجة، وإلى الحضارة التي تحتضنهما. ولا يمكن أن تمس بطرف السبابة اللغة العربية، ولا إنسان اللغة العربية ولا حقل معرفتهما المجدب. ولكي يتطابق معها الناقد العربي منذ سبعينيات القرن العشرين فعليه أن يُميت المؤلف والانسان، ويُعلن إنكار العقل والمنطق والموضوعية والمعنى والمعرفة.. وواضح أن تطابقاً كهذا لا يمكن أن يتم إلا بمعجزة. ولكن هذه المعجزة تحققت بيسر، فهذا الناقد العربي اكتشف في العلن إنه يعيش حياة عربية فقيرة، أو تكاد تكون خالية من العقل والعلم والمنطق والموضوعية والمعنى والمعرفة، ينخلها القائد الخالد من فوق، والدين السياسي من تحت. وجد شروط "مابعد حداثته"، دون جهد، جاهزة على طبق، ووسائل إيصالها متوفرة بدعم وسائل الاعلام والنشر. ولكنه يحاول بجهد أن يجعل من هذا الاكتشاف العلني خفياً، يتماشى مع خفاء أساليبه اللغوية السحرية. إنه ضرب من استمناء بالغ الخطورة على صحة الكيان الذي ينصرف كلياً إلى المخيلة الإيهامية.النسبة الكبرى من قراء هذا النقد النظري هم مشاريع نقاد داخل الصحافة الثقافية، أو مشاريع مدرسين داخل الجامعة. ولذلك اتسمت كتابةُ الكتّاب وقراءةُ القراء بالتضخم الثقافي (على قياس التضخم المالي)، دون غطاء من حضارة. لم يعد القارئ متلقياً للمعرفة، بل أصبح "ظاهرة مستقرة في النص، وهو صفحة البياض التي يكتب النص فيها جسده"، على حد قول كمال أبو ديب. هذا التضخم الثقافي يتم في اللغة الجديدة، التي يسّرت على الجميع احتقار المعنى، (يسميه أدونيس "طين المعنى" أو "وحل" المعنى). تضخم ثقافيّ يتطلب أعلى درجات البلاغة اللفظية: "الشعر هو استبطان لما يمكن من اللاممكن. هو شرود وانفلات من الوقتي نكاية بالعارض الزائل، بل نعتبره مثوى للوجود، ومسكناً له."، "ليس الشعر سوى ذاك الكيف الملبّد بالسؤال الأنطولوجي." ويعود أبو ديب ليرى "الشعرية": "الحلم الأسمى في عالم الإنسان وذاته، نزوعه الدائب إلى خلق بعد الممكن .. وهي قدرة عميقة قادرة على استبطان الإنسان والعالم والطبيعة، وآلهتها، المجتمع وصراعاته، الحضارة وسموها، وعظمتها، الطبقات المسلوبة المستغلة و ملحمة صراعها، ضد طبقات .. تمسح وجودها بالقسر والقهر والقمع وكل ما في اللغة من قافات وقيافات .." ألا يثير الفزع، تطلع "الشعرية" هذا، الذي يتجاوز ما عرفناه من التطلع اليوتوبي للأمميين والقوميين والاسلاميين السلفيين؟ لا بل يتجاوز تطلع "رولان بارت" الذي يرى شعر الحداثة العجيب: ممارسة ذهنية ولعبة مجانية مليئة بالرعب لأنه “ نزهة على تخوم الهذيان “.كتّاب وقرّاء "الشعرية" العرب مثيرون للشفقة، لا لأنهم يستطيبون "النزهة على تخوم الهذيان" فقط، بل لأنهم لا يكفّون عن استحضارها من الكتب الغربية، واصطناعها في الوهم، وهي لا حقيقة لها في حياتهم. على العكس، كل هذا يتم تحت وطأة حياة شخصية زاخرة بالنفي، والفقر المادي والعقلي والروحي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

العمود الثامن: المتشائل

 علي حسين أعترف أنّ الكتابة اليومية تتطلب من صاحبها جهداً كبيراً، فصاحب النافذة اليومية مطلوب منه أن يُقدِّم شيئاً يتجاوز ما اطلعت عليه الناس في الأخبار، وشاهدته من خلال الفضائيات، فالعبور إلى جسر...
علي حسين

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

زهير الجزائري 2 بين القتال والهدنةً القصيرة تغيرت الحياة الاجتماعية. لقد قضى الناس أياماً طوالًا في الملاجئ. نساء ورجال حشروا في مكان ضيق. شبان لم يعرفوا السياسة و ما أرادوا أن يعرفوها انفصلوا عن...
زهير الجزائري

اشكالية السياسة والتعصب تحليل سيكولوجي

د. قاسم حسين صالح المفهوم الشائع عند العراقيين بمن فيهم الكثير من المثقفين ، ان المتدينين يكونون متعصبين والمثقفين متحررين وغير متعصبين ، فهل هذا صحيح ام فيه رأي آخر ؟ لنبدأ بتحديد المفهوم...
د.قاسم حسين صالح

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram