جاسم عاصي
ما نعنيه بالفراغ ؛ هي الصيغة الفلسفية التي تنتجها رؤى الفنان عبر مجموعة من نماذجه . هذه الرؤى ،ليس بالضرورة أن تعمل على وفق نمط فلسفي جدلي ، بقدر ما تحاور ما ينتجه الواقع في خلق نمط من إعادة النظر وفحص المؤثرات ونتائجها ،وتقدير تلك النتائج بتجسيدها فنياً . وهي سلوكيات بشرية تظهر لحظة وجود الإنسان في الفراغ الذهني . فالفنان ( أكرم جرجيس ) ينشط في هذه الزاوية التي ربما تبدو للرائي محدودة ، لكنها تتسع باتساع معانيها المرسلة عبر كادر الصورة . فالفراغ هنا نوع من لحظة تسكن فيها الأشياء عن حركتها ، ويعم نوع من الركود في الجُهد البشري ، وتلوذ أزمنة النموذج بشفافية اللقطة المستوحاة من وجود مادي ، ينزع إلى وجود خارج المجال ، وهو ما نعنيه بالفراغ . أي الوجود خارج الزمان ، باتجاه زمان ذاتي لا يتخيله النموذج ، بقدر ما يُفرض عليه كنتيجة لظواهر متعددة ومتراكمة ، كأن يكون الملل على الصعيد النفسي ، أو العوّز على الصعيد الاقتصادي المعيشي ، ثم الركود على صعيد العمل . وهكذا تتسع دائرة الفراغ باتساع محيط الأسباب كل على انفراد . الحاصل هنا هو الوجود في اللازمان تماماً . أي إنها لحظة تائهة ،متماهية مع ذاتها ، يلتقطها الفنان بعين عدسة كاميرته ،كما لو أنه يبحث في كّدوّم من الحبوب عن حبة واحدة يحتاجها . إنه يبحث في قطعة الماس ويركز على لمعان جزء منها . فالفراغ بهذا الشأن منتِج وليس مضيّع لخصائص الأشياء . معمق لدلالتها ومساهم في كشف الظواهر . فالحالة نوع من مردودات نفسية خالصة . يعمل الفنان إلى توفير كل مستلزمات فنه ، عبر آلته التي تُسهم معه في رصد الأشياء في الوجود . فلصورة الفوتوغرافية من هذا المنطلق بمثابة صوت فلسفي ، لأنه يبحث في جدلية الأشياء ومحاورتها خلال مستلزمات فنية الصورة، ولا يبقيها ضمن وضع راكد مسلّم به ، بل يزجه ونقصد( المشهد) ضمن مشروع الفنان في هذا الضرب من الشروع ، حيث يتوفر على امكانيات ذاتية وموضوعية كبقية الأجناس التي تُساهم في محاكاة أو محاورة الظواهر والأشياء في الوجود . غير أن حساسية الفنان الفوتوغرافي ، وحساسية عين كاميرته يقودانه نحو وضع ما يتمكن من تعميق اللقطة ، بمستلزمات فنية كتوزيع الضوء والظِل ، أو الضوء والعتمة. ثم زاوية اللقطة الأكثر أهمية في الصورة . والتي تقابل تماماً الصورة في الشعر .
كما أوضحنا في الابتداء ، يكون التأمل في الفراغ ، أما الدهشة فأنها تكمن في الذات . صحيح تصعب معرفتها، لكن المحصلة التي تعكس وضعاً نفسياً ، إذا ما أُحسنت رؤيته وفحصه ، فأنه يقود إلى إفراز ظاهرة الدهشة الممزوجة بالحزن ، حيث تتحوّل إلى ندم وحسرة على ما يجري . هنا تحتكم الذات وبشكل غير مُعلن عن حسرة ضياع الكثير من القيّم مثلاً ، وبالتالي ضياع الزمن وهدره في الفراغ الوجودي ، دون استثماره لصالح الإنسان . الإنسان محوّر الصورة الفوتوغرافية ، بل محوّرها المركزي والرئيس ، فهي لا تعني شيئاً دون الإنسان ، حتى لو صوّرت الأشياء والظواهر بمعزل عن الإنسان ، لكنها تصب في وجوده ، لأنها تعني معنى حياته . فحين يصوّر الفنان شارعاً تكثر فيه النفايات ، وتعتور أرضه المطبات ، وبيوته يطغي عليها الإهمال ، إنما تنطلق الصورة من وجود الإنسان حصراً ، فهي ما وجدت كأمكنة إلا له ، فهو ضمن المتروكات والمشاهِد داخل وجوده المادي ، يترعرع داخله ، وتنسج تفاصيل حياته يومياً ضمن مجرى سريان الزمن فيه. إن النظر إلى صوّر الفنان ؛ نجدها لا تنعكس على ذاته كرائي بصري دون هذه الحيثيات .
في لقطة يظهر فيها الفنان الفوتوغرافي( فؤاد شاكر)بصورة "بورتريه" ، احتكم الفنان في إظهار طبيعة تأمله إلى الضوء والعتمة . موّزعاً إياها وفق منظوره إلى الوضع النفسي الذي تجسد في صورة التأمل في الأشياء ، وبالتالي التأمل في الزمن كما سنرى . اللقطة من الأعلى ، وبهذا وفّر كمية من الضوء على الرأس ، لأنه مركز التأمل ، الرأس في فسلجة محتواه ، يُرسل ايعازاته إلى العين التي بدورها تُرسل ايعازاتها البصرية نحو الأشياء التي نعتناها بالتأمل في الفراغ . أي الـتأمل في ما هو غير منظور، بل يترك علاماته التي تمكّن الرائي البصري من كشفها كحالة إنسانية . انسحب الضوء من الراس وتسلل إلى الوجه كاشفاً كل بصمات الأزمنة عليه ، ولأن(فؤاد) فنان مرهف الحس ، عمد المصوّر( جرجيس) على أن يكون الضوء مركّزاً على الرأس والوجه . في الرأس تكمن معاني حيثيات الوجود وحوارها ، في الوجه تتجسد مجريات الأزمنة وسقوط الظواهر السلبية على وجود الفنان . لم يعر أهمية إلى الملابس ، لأنها لا تعني سوى الاكساء ، لذا تركها أسيرة العتمة .كما وأنه لم يهمل الساعدين ، لأنهما الأداتين للفعل البشري. والمعني هنا فعل الفنان في الزمان والمكان. فالساعد الأيسر ركزه على الفخذ ، في حين وضع الرأس في مرتكز الكف ، بضغط واضح . بينما الساعد الأيمن ترك بين أصابعه سيجارة شبه منطفئ، لا أثر لدخانها . وهنا تؤول هذه اللقطة بنوع تأمل في الزمن عبر صورة السيجارة التي تنتظر تلاشيها. بمعنى تماهى الزمن مع وجود متلاشي ، السيجارة لا تبقى بل تتلاشى بفعل سريان الوهج والامتصاص اللذات يخلفان رماداً، مما يُبقى الزمن المهزوم في حياة الإنسان، تاركاً فراغاً لا معنى له كظاهر ، وكباطن يعني الكثير من مسببات تلك الظواهر . أي الفنان بتأمله بالفراغ عبر نموذجه الفنان المرهف ، إنما جسّد الضياع في الوجود الذي تحوّل إلى فراغ هائل . وهذه الظاهرة للصورة لم تأت من فراغ ، بل لها موحيات في حياة وأرشيف الفنان( فؤاد شاكر) الذي اعتنى بالفراغ ،منطلقاً من الأحياء الضيقة باتجاه الفضاءات التي تتسع لمعنى حريته ، ليس الوجودية فحسب ، بل تُطلق العنان لكاميرته التي تُعين رواه في استغلال الأسوّد والأبيض لرصد حياة الآخرين. فـ( جرجيس) استطاع بعلامات دالة أن يمنح ظاهرة البحث في الفراغ معنى فلسفياً خالصاً .
-يتبع-