TOP

جريدة المدى > عام > التأمل في الفراغ.. مصوّرات الفنان أكرم جرجيس

التأمل في الفراغ.. مصوّرات الفنان أكرم جرجيس

نشر في: 26 أغسطس, 2018: 07:19 م

جاسم عاصي

ما نعنيه بالفراغ ؛ هي الصيغة الفلسفية التي تنتجها رؤى الفنان عبر مجموعة من نماذجه . هذه الرؤى ،ليس بالضرورة أن تعمل على وفق نمط فلسفي جدلي ، بقدر ما تحاور ما ينتجه الواقع في خلق نمط من إعادة النظر وفحص المؤثرات ونتائجها ،وتقدير تلك النتائج بتجسيدها فنياً . وهي سلوكيات بشرية تظهر لحظة وجود الإنسان في الفراغ الذهني . فالفنان ( أكرم جرجيس ) ينشط في هذه الزاوية التي ربما تبدو للرائي محدودة ، لكنها تتسع باتساع معانيها المرسلة عبر كادر الصورة . فالفراغ هنا نوع من لحظة تسكن فيها الأشياء عن حركتها ، ويعم نوع من الركود في الجُهد البشري ، وتلوذ أزمنة النموذج بشفافية اللقطة المستوحاة من وجود مادي ، ينزع إلى وجود خارج المجال ، وهو ما نعنيه بالفراغ . أي الوجود خارج الزمان ، باتجاه زمان ذاتي لا يتخيله النموذج ، بقدر ما يُفرض عليه كنتيجة لظواهر متعددة ومتراكمة ، كأن يكون الملل على الصعيد النفسي ، أو العوّز على الصعيد الاقتصادي المعيشي ، ثم الركود على صعيد العمل . وهكذا تتسع دائرة الفراغ باتساع محيط الأسباب كل على انفراد . الحاصل هنا هو الوجود في اللازمان تماماً . أي إنها لحظة تائهة ،متماهية مع ذاتها ، يلتقطها الفنان بعين عدسة كاميرته ،كما لو أنه يبحث في كّدوّم من الحبوب عن حبة واحدة يحتاجها . إنه يبحث في قطعة الماس ويركز على لمعان جزء منها . فالفراغ بهذا الشأن منتِج وليس مضيّع لخصائص الأشياء . معمق لدلالتها ومساهم في كشف الظواهر . فالحالة نوع من مردودات نفسية خالصة . يعمل الفنان إلى توفير كل مستلزمات فنه ، عبر آلته التي تُسهم معه في رصد الأشياء في الوجود . فلصورة الفوتوغرافية من هذا المنطلق بمثابة صوت فلسفي ، لأنه يبحث في جدلية الأشياء ومحاورتها خلال مستلزمات فنية الصورة، ولا يبقيها ضمن وضع راكد مسلّم به ، بل يزجه ونقصد( المشهد) ضمن مشروع الفنان في هذا الضرب من الشروع ، حيث يتوفر على امكانيات ذاتية وموضوعية كبقية الأجناس التي تُساهم في محاكاة أو محاورة الظواهر والأشياء في الوجود . غير أن حساسية الفنان الفوتوغرافي ، وحساسية عين كاميرته يقودانه نحو وضع ما يتمكن من تعميق اللقطة ، بمستلزمات فنية كتوزيع الضوء والظِل ، أو الضوء والعتمة. ثم زاوية اللقطة الأكثر أهمية في الصورة . والتي تقابل تماماً الصورة في الشعر .
كما أوضحنا في الابتداء ، يكون التأمل في الفراغ ، أما الدهشة فأنها تكمن في الذات . صحيح تصعب معرفتها، لكن المحصلة التي تعكس وضعاً نفسياً ، إذا ما أُحسنت رؤيته وفحصه ، فأنه يقود إلى إفراز ظاهرة الدهشة الممزوجة بالحزن ، حيث تتحوّل إلى ندم وحسرة على ما يجري . هنا تحتكم الذات وبشكل غير مُعلن عن حسرة ضياع الكثير من القيّم مثلاً ، وبالتالي ضياع الزمن وهدره في الفراغ الوجودي ، دون استثماره لصالح الإنسان . الإنسان محوّر الصورة الفوتوغرافية ، بل محوّرها المركزي والرئيس ، فهي لا تعني شيئاً دون الإنسان ، حتى لو صوّرت الأشياء والظواهر بمعزل عن الإنسان ، لكنها تصب في وجوده ، لأنها تعني معنى حياته . فحين يصوّر الفنان شارعاً تكثر فيه النفايات ، وتعتور أرضه المطبات ، وبيوته يطغي عليها الإهمال ، إنما تنطلق الصورة من وجود الإنسان حصراً ، فهي ما وجدت كأمكنة إلا له ، فهو ضمن المتروكات والمشاهِد داخل وجوده المادي ، يترعرع داخله ، وتنسج تفاصيل حياته يومياً ضمن مجرى سريان الزمن فيه. إن النظر إلى صوّر الفنان ؛ نجدها لا تنعكس على ذاته كرائي بصري دون هذه الحيثيات .
في لقطة يظهر فيها الفنان الفوتوغرافي( فؤاد شاكر)بصورة "بورتريه" ، احتكم الفنان في إظهار طبيعة تأمله إلى الضوء والعتمة . موّزعاً إياها وفق منظوره إلى الوضع النفسي الذي تجسد في صورة التأمل في الأشياء ، وبالتالي التأمل في الزمن كما سنرى . اللقطة من الأعلى ، وبهذا وفّر كمية من الضوء على الرأس ، لأنه مركز التأمل ، الرأس في فسلجة محتواه ، يُرسل ايعازاته إلى العين التي بدورها تُرسل ايعازاتها البصرية نحو الأشياء التي نعتناها بالتأمل في الفراغ . أي الـتأمل في ما هو غير منظور، بل يترك علاماته التي تمكّن الرائي البصري من كشفها كحالة إنسانية . انسحب الضوء من الراس وتسلل إلى الوجه كاشفاً كل بصمات الأزمنة عليه ، ولأن(فؤاد) فنان مرهف الحس ، عمد المصوّر( جرجيس) على أن يكون الضوء مركّزاً على الرأس والوجه . في الرأس تكمن معاني حيثيات الوجود وحوارها ، في الوجه تتجسد مجريات الأزمنة وسقوط الظواهر السلبية على وجود الفنان . لم يعر أهمية إلى الملابس ، لأنها لا تعني سوى الاكساء ، لذا تركها أسيرة العتمة .كما وأنه لم يهمل الساعدين ، لأنهما الأداتين للفعل البشري. والمعني هنا فعل الفنان في الزمان والمكان. فالساعد الأيسر ركزه على الفخذ ، في حين وضع الرأس في مرتكز الكف ، بضغط واضح . بينما الساعد الأيمن ترك بين أصابعه سيجارة شبه منطفئ، لا أثر لدخانها . وهنا تؤول هذه اللقطة بنوع تأمل في الزمن عبر صورة السيجارة التي تنتظر تلاشيها. بمعنى تماهى الزمن مع وجود متلاشي ، السيجارة لا تبقى بل تتلاشى بفعل سريان الوهج والامتصاص اللذات يخلفان رماداً، مما يُبقى الزمن المهزوم في حياة الإنسان، تاركاً فراغاً لا معنى له كظاهر ، وكباطن يعني الكثير من مسببات تلك الظواهر . أي الفنان بتأمله بالفراغ عبر نموذجه الفنان المرهف ، إنما جسّد الضياع في الوجود الذي تحوّل إلى فراغ هائل . وهذه الظاهرة للصورة لم تأت من فراغ ، بل لها موحيات في حياة وأرشيف الفنان( فؤاد شاكر) الذي اعتنى بالفراغ ،منطلقاً من الأحياء الضيقة باتجاه الفضاءات التي تتسع لمعنى حريته ، ليس الوجودية فحسب ، بل تُطلق العنان لكاميرته التي تُعين رواه في استغلال الأسوّد والأبيض لرصد حياة الآخرين. فـ( جرجيس) استطاع بعلامات دالة أن يمنح ظاهرة البحث في الفراغ معنى فلسفياً خالصاً .

-يتبع-

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المحافظات التي عطلت الدوام الأحد بسبب الأمطار

تأجيل 4 مباريات في الدوري العراقي بسبب الأمطار

خامنئي يرد على ترامب: لن نفاوض تحت الضغط

قائممقام القائم: الحدود العراقية السورية مؤمّنة بالكامل ولا تهديد للأمن الوطني

تركيا تحذر من تحول أحداث اللاذقية إلى تهديد للسلام في سوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram