طالب عبد العزيز
يبدو أن البعض يسيء فهمنا في أحقية الحياة، ولا أريد أن أمنع عن أحد حقه في فهمها، لكنني، أتحدث عن فهمي، وهذا شأن خاص بي. أنا إنسان لا أنتمي لأي قبيلة، وإن كان بعض أقربائي يعتقدون بنسب الى هذه القبيلة أو وتلك، فهذا شأنهم، أيضاً. كنت تحدثت في بوست على صفحتي، وهي خاصتي، عن رفضي وسخريتي من قيم وأعراف وتقاليد ورثتها عن أهلي، بعضها عن الوعاظ النائمين، ذوي الأذقان القذرة وبعضها ما يتعلق منها بالانتماء الديني – الطائفي، ومثلها ما ينتسب الى خيام الصحراء وأكواخ عرب ثيسجر. واشهد الله أنني خارج ذلك كله، إذ لم أكُ لأسكن خيمة في برية يوماً، أو كوخاً في مستنقع، ولا أستهجن العيش في هذه وتلك، أبداً، فهذه حياة لا خيار لأحد فيها، إنما أستهجن التقاليد والقيم والأعراف، التي أجد أن القوانين المدينة، الحضرية، الانسانية خير منظم لحياتنا إذا ما تخلينا عنها.
وأجد إن دفاعنا عنها أو البكاء على فقدانها أمر معيب، مضر بمستقبل أبنائنا، مكرِّس لخلافاتنا، موقِد لنار الفتنة والبغضاء بيننا. وهنا أسأل: كم من شيخ عشيرة وقف ضد قاتل، أرعن، أحمق، من أبناء أفراد عشيرته؟ وهل بينهم من أنصف مظلوماً، مقتولاً من أبناء عشيرة أخرى؟ وكم بينهم من جار واستكبر واستهجن واستخف بذوي مظلوم، مدهوس، مجروح، مفجوع بابنه، مقتول، لا لشيء إلا لأنه حِضْريٌّ، مثلي أو بلا عشيرة ؟
قد يسألني أحدهم عن كرم فلان وشجاعة فلان وسعة مضيف فلان وبسالة فلان وحكمة فلان وكبر نفوذ فلان. ألا ترون اننا، نكرس قيما لا تقوم إلا على القتل والتبذير؟ فالشجاعة خاصة القتل والكرم خاصة التبذير، وهكذا. وحكمة قبائل السوء تلك تقوم على ثلاثة أثاف، لا أقبح منها، ويعرفها الجميع (السيف والمنسف واللسان) ولكم أن تتصورا مجتمعا يقوم على الثلاثية هذه. فهو إما يقتل أو يبذر أو يحرف الحق عن مواضعه. أترانا ما زلنا بحاجة الى هذه؟ ألا تكفل حياتَنا القوانينُ والنظمُ والشرائعُ التي سنها الانسان، عبر متوالية سعيه النبيل على طريق السلام والطمأنينة والحق في العيش الكريم؟ هل بينكم من يحدثني عن نبل ورفعة ما تدافعون عنه من أعراف؟ وهنا، لا أريدكم أن تحدثونني عن فسحة الامن التي سيوفرها الشيخ للقاتل المستجير به. فهذا مما أعيبه عليكم.
أسألكم بالله: هل العيش في ظل قانون العشائر آمن لأحد؟ هل بينكم من يأمن على أطفاله وسيارته ونوافذ بيته، بل وحتى على خزان الماء الذي على سطح داره من رصاص الأحاديات والثنائيات والكلاشينكوفات ؟ الذي تطاير وما زال يتطاير الى اليوم كلما نشب نزاع مسلح بين عشيرتين، لا لشيء إلا لأن حمامة ابن العشيرة هذه وقفت على سطح دار ابن العشيرة تلك، ثم أن هذا حين طالب بها أنكرها عليه ذاك !! وهكذا، سيموت فلان ويتعوق فلان ويحترق بيت فلان وتتثقب سيارة فلان وفلان وبعد أن ينتهي إطلاق الرصاص سيجلس الشيخ هذا قبالة الشيخ ذاك، ليصبحوا في نظرنا (الحكماء، العقلاء، ذوا النصح والمشورة والفراضة وووو). أتروننا داخل الزمن؟
أنا ابن المدينة، فتحت عيني مطالع الخمسينيات من القرن الماضي على جمالها وكمالها وسلامة إنسانها من الجور والظلم، لم يأخذ أبي بيدي الى رجل دين ليبصق في وجهي، ولم يجلسني في خيمة، ولم يسقني عبدٌ قهوة في مضيف، ولم يقف أبي ذليلاً أمام شيخ عشيرة، لنا أرض عشنا منها، ولأبي مسحاة ومنجل وفروند، كانت قوام حياتنا، لم يدفعني وأخوتي الى الاعتداء على أحد من جيراننا، ولم يأمرني بالسطو على بستان فلان الشيعي، السنّي، ولم يقل لي عليك بابن فلان، اقهره، نل منه، مزق عليه ثيابه، إنما علّمني أن الذي يعطيك القليل حريٌّ بأن يعطيك الكثير، وأنَّ الذي وهب لك الصحة وحده الذي سيهبك الرزق الحلال، فلا يغرنك مال فلان. عليك أن تجعل جارك آمنا، مطمئنا بين عياله، فكن حاضره في غيابه، وحارسه في سفره، وصاحبه في حضره، أمينه على بيته وماله، ولعمري على هذه وتلك تربيت، فلم يحوجني الله الى سيد معمم، ولم تدعوني الحاجة الى شيخ معقّل، وكنت على هذه وتلك مذ خلقت وسأظل عليها ما حييت.