TOP

جريدة المدى > عام > التأمل في الفراغ .. مصوّرات الفنان أكرم جرجيس

التأمل في الفراغ .. مصوّرات الفنان أكرم جرجيس

نشر في: 1 سبتمبر, 2018: 08:19 م

جاسم عاصي

(2)

صورة يظهر فيها دكان حدادة .استطاع الفنان خلال مشهد الدكان ومحتوياته أن يُعبّر عن ظاهرة التأمل في الفراغ ، مستخدماً الفضاء المكاني والمردود النفسي عند صاحب الدكان . فقد اختار له ولأشيائه زاوية التقط عبرها مجسات البناء السيكولوجي الذي عليه صانع الأدوات . ففي عمق الدكان سادت العتمة . ولهذا مدلول مع ما يقابله من أجزاء سُلط عليها الضوء . بمعنى أعطى إلى العمق إهمالاً ، بينما أكد على واجهة الدكان باعتبارها تحتوي معرض مصنوعاته أي جُهده في صناعة ما يجده من مستلزمات البناء للحياة . فهو كإنسان وعامل ارتبط مع أشيائه ، والعمل على تسويقها . الأدوات مكدسة ومصنفة حسب نوعها ، وفق ذوق صاحب الدكان . والرجل جالس في زاوية ، تشوب جلسته وعبر نظرته لما حوله نوع من التأمل في الاهمال الذي خلق فراغاً، حيث تُظهر اللقطة عدم الاكتراث الذي يعيشه صاحب الدكان من الآخر، بسبب الكساد الذي تعانيه بضاعته . وهذا بدوره أضفى على وضعه النفسي قلقاً غير معلن . فقط أسفر عنه الارتخاء الجسدي الذي يُحكي رتابة وجوده في المكان . نظرته تشوبها أسئلة تخص واقع الحال. لكنها لا تجد الإجابة ، فقط انعكست على وضع جسده المرتخي ، ونظرته في لا معنى ما يرى . لقد حقق المصوّر عبر لقطته هذه مستويين من المعنى ، هي الفراغ والتأمل فيه . وطبيعي لم يخرج منهما بشيء ، لأن الصورة الفوتوغرافية ، تؤشر ولا تضع الحلول ، فهي قطعة فنية خالصة ، تشتغل ضمن كادرها مجموعة إشارات وعلامات ، يستطيع الرائي أن يقف عندها ويفسرها ضمن مستواه المعرفي ، وضمن تشكلاته المختلفة ، بما فيها تجربته( دربته) في الفحص.
مانراه في الصورة تجسيد لوجود عامل الحدادة ، وهو منهمك في تطويع قطعة لحديد بواسطة النار والضرب بمطرقة ضخمة نسبياً . هذه الحالة تطلّبت من الفنان الاهتمام بموجبات العمل ، الذي يرتبط مباشرة بالعقل والجسد . وبهذا تمكن الفنان من توليف هذه الأجزاء وفق لقطة مدروسة . ففي توزيع الضوء نفقد وفره على الرأس الذي هو مركز هذا الجهد ، كذلك الساعدان ، اللذان هما أيضاً يؤزران العقل في مراقبة صناعة الشيء المراد استكماله ، فهما يلبيان توجيهاته . بينما وزع العتمة بشكل جزئي على الجدار الذي يقع أمام العامل ، ووزعه بكثافة خلف القامة . هذا الهارموني من توزيع الضوء والعتمة ، أعطى للقطة شعريتها ، لأنها استجابت لعقل الفنان الذي درس ما يدور في عقل العامل ، كذلك رصد أهم ما تنتجه مثل هذه الناحية من العمل في صناعة الأدوات من قطع الحديد . فهي صناعة لا تبتعد عن جُهد العقل في وضع الصورة الموافقة للقطته المصنوعة ، ومع الجهد العضلي الذي يساعد العقل في تنفيذ مراده . كل هذا حاول الفنان وضمن اختياراته الفنية أن يضعنا ضمن صورة فوتوغرافية تحتوي حراكاً مرئياً يوحي بطبيعة العمل ، لاسيّما ما كشفه على وجه العامل وهو ينهمك في مقاومة النار وصلابة قطعة الحديد ، الأمر الذي تطلب جهداً عضلياً تركّز في الساعدين وقبضتي الكفين ،حيث كان الضوء أوفر وأقدر على عكس الفعل.
استعادة الحياة هنا ، تعني إعادة الفتوة للأحذية القديمة وجعلها صالحة للاستعمال ، الظاهرة التي تبرز في الأزمات المالية ، وندرة سُبل العيّش. الفنان هنا تعامل مع المشهد ببساطة متناهية ،لأنه مشهد تميّز بالبساطة ، وتلقائية الحيوات . رجل جالس منهمك في ترقيع قطعة جلد كما تبدو . رجل يجلس بالقرب منه على طاولة بسيطة ، الاثنان من الأخوة الكرد . في اللقطة أكد على مجموع الأحذية المهيأة للبيع ، وأشياء الدكان الأخرى ، حيث رصد مساقط الضوء بتلقائية تحكي تلقائية المكان الخالي من التعقيدات والغموض ، فوجود الضوء على كل الأشياء والحيوات يعني عدم اختفاء العتمة التي أسبغت على المشهد نظاماً تلقائياً ، أي ما تخلفه الأشياء وهي تستقبل الضوء . قامة الرجل الآخر حازت على ضوء باهر ، فاض على ما هو قريب منه كالأحذية المعروضة . الاثنان منشغلان عن بعضهما . كل منهما يوزع نظراته على ما يُلفت نظره . المنهمك في خياطة شيء ، يقابله الرجل الذي يعتمر قبعة ، حيث تظهر عليه إمارات الرفاه النسبي الظاهر على ملابسه ، ونظرته إلى أشياء الدكان ، والحقيقة بما تُسمى بـ( البسطية) . في هذه الصورة أحسن الفنان اختيار زاوية اللقطة ، مختاراً البساطة والتلقائية ، لأنها ذات محتوى يُظهر الحالات والظواهر التي ينتجها النظام الاقتصادي .

يحكم الدهشة حالة التأمل في الأشياء ، بما يخلق نوعاً من الاكتشاف خارج الذات . أي أن الرائي يُدرك ثمة أشياء تُحيطه ، لكنها مضمرة ، وحين اكتشافها تتم خلال رؤيتها نوع الدهشة المزدانة في الفرح الذي يُزيل طبقات متراكمة من غياب الصورة الجميلة في الوجود . وفي تلك اللحظة ذكر المثل الشعبي(ضحك خير وشرنه على أهل الزبير) أو ( يا رب اجعلها دايمة ) كأن القائل غير مصدق ما يحدث له . هذه الثيمة حاول الفنان (أكرم) أن يُجسدها عبر لقطات تُعطي معناها من بين معاني كثيرة ، غير أنها تصب في دهشة الرائي ونوع فرحه .ففي صورة التقطها داخل مقهى ، يظهر فها جمع من الزبائن ، لكنه ركز على صبي ورجل بالقرب منه . الصبي يُري الرجل ما نُشر على صفحات الجريدة اليومية ، بينما الرجل يبدو مرتخياً وهو يتطلع إلى ما أشار إليه الصبي . إذ يشتركان معاً في استيعاب المنشور . ولكي نعرف طبيعته ، نرى أن الصورة عكست بهجة ودهشة الاثنين معاً . فالفنان حاول أن يُضفي سمة الفرح ليس على الاثنين والصحيفة ، وإنما على طبيعة الفضاء الذي ظهر عليه المقهى ، عبر توزيع الضوء ، وانحسار العتمة داخله . مما وضع المكان موّضع البهجة المستدامة في الحيّز المكاني( المقهى) كذلك حافظت اللقطة على سعة نظر عدستها خلال سعة المشهد وامتداد حواشيه المكانية ، وفيض الضوء الساقط من الخارج إلى الداخل . فقد استشف الرائي عمق المقهى واحتوائه للزبائن . وذلك باختيار الفنان لمقطع عرضي ساهم في رسم حدود المكان . بينما نجد الصبي في لقطة أخرى وهو جالس بين أكداس الكتب في شارع المتنبي(شارع الثقافة) وهو مبتهج لما اكتشفه في كتاب من بن أكداس الكتب وبالصدفة . هنا الصدفة خلقت للصبي بهجته وسط تعب يعالني منه في يوم اعتاد عليه في الأسبوع لكسب عيشه . البهجة ارتسمت بعفوية كما أظهرتها عين الكاميرا ، وهي من بين بهجة الآخرين التي تخترق جدار الحزن السميك الذي يلف حياة الإنسان .كذلك الصوّر التي التقطها لمشهد الكتب المنطرحة على الأرضيات والأرصفة ، التي هي بحد ذاتها حاوية للبهجة التي يهرع إليها الإنسان في يوم الجمعة ، لإكتشاف ما يصبو إليه . ومهما كان محرك البهجة ونوعه ، فهو نظام أخلاقي يُضفي على حياة الإنسان نمطاً خارج النمط السائد في الوجود . فالعثور على كتاب طال البحث عنه ، ولقاء صديق في الشارع ، وقضاء وقت ممتع في مجمعات الثقافة ومنتدياتها . كل هذا رصده الفنان الفوتوغرافي وهو يتجول بحذر في الشارع متسقطاً حراك الداخلين والخارجين ، والذين لا يملون من التجوال في منعطفات الشارع ، والمشاركين في أكداس العابرين إلى الشارع خلال مياه دجلة . كذلك كراديس الملتفة حول عازف أو مغني .هذه اللقطات هي البهجة المستدامة التي يضفيها الفنان على الحياة . وهذا ما وجدناه في صور الفنان( أكرم جرجيس) الذي حوّل كاميرته إلى أداة ووسيلة توثيق للحياة العراقية ، تخليداً لتاريخه ، ولعل الجانب الثقافي والمعرفي متمثلاً في شارع المتنبي وبهجته ، خير ملاذ اختارته عين كاميرته لتقدم عيّنات من الحياة العراقية التي حصر فرحها ودهشتها وبهجتها في شارع ينفتح أسبوعياً كي يُبدد أحزانهم المتراكمة ، ويزيح تراكم الوهن الذي خلفته الحياة المتعطلة في الوجود اليومي في الأسواق والبيت والحارات ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المحافظات التي عطلت الدوام الأحد بسبب الأمطار

تأجيل 4 مباريات في الدوري العراقي بسبب الأمطار

خامنئي يرد على ترامب: لن نفاوض تحت الضغط

قائممقام القائم: الحدود العراقية السورية مؤمّنة بالكامل ولا تهديد للأمن الوطني

تركيا تحذر من تحول أحداث اللاذقية إلى تهديد للسلام في سوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram