جاسم عاصي
(2)
صورة يظهر فيها دكان حدادة .استطاع الفنان خلال مشهد الدكان ومحتوياته أن يُعبّر عن ظاهرة التأمل في الفراغ ، مستخدماً الفضاء المكاني والمردود النفسي عند صاحب الدكان . فقد اختار له ولأشيائه زاوية التقط عبرها مجسات البناء السيكولوجي الذي عليه صانع الأدوات . ففي عمق الدكان سادت العتمة . ولهذا مدلول مع ما يقابله من أجزاء سُلط عليها الضوء . بمعنى أعطى إلى العمق إهمالاً ، بينما أكد على واجهة الدكان باعتبارها تحتوي معرض مصنوعاته أي جُهده في صناعة ما يجده من مستلزمات البناء للحياة . فهو كإنسان وعامل ارتبط مع أشيائه ، والعمل على تسويقها . الأدوات مكدسة ومصنفة حسب نوعها ، وفق ذوق صاحب الدكان . والرجل جالس في زاوية ، تشوب جلسته وعبر نظرته لما حوله نوع من التأمل في الاهمال الذي خلق فراغاً، حيث تُظهر اللقطة عدم الاكتراث الذي يعيشه صاحب الدكان من الآخر، بسبب الكساد الذي تعانيه بضاعته . وهذا بدوره أضفى على وضعه النفسي قلقاً غير معلن . فقط أسفر عنه الارتخاء الجسدي الذي يُحكي رتابة وجوده في المكان . نظرته تشوبها أسئلة تخص واقع الحال. لكنها لا تجد الإجابة ، فقط انعكست على وضع جسده المرتخي ، ونظرته في لا معنى ما يرى . لقد حقق المصوّر عبر لقطته هذه مستويين من المعنى ، هي الفراغ والتأمل فيه . وطبيعي لم يخرج منهما بشيء ، لأن الصورة الفوتوغرافية ، تؤشر ولا تضع الحلول ، فهي قطعة فنية خالصة ، تشتغل ضمن كادرها مجموعة إشارات وعلامات ، يستطيع الرائي أن يقف عندها ويفسرها ضمن مستواه المعرفي ، وضمن تشكلاته المختلفة ، بما فيها تجربته( دربته) في الفحص.
مانراه في الصورة تجسيد لوجود عامل الحدادة ، وهو منهمك في تطويع قطعة لحديد بواسطة النار والضرب بمطرقة ضخمة نسبياً . هذه الحالة تطلّبت من الفنان الاهتمام بموجبات العمل ، الذي يرتبط مباشرة بالعقل والجسد . وبهذا تمكن الفنان من توليف هذه الأجزاء وفق لقطة مدروسة . ففي توزيع الضوء نفقد وفره على الرأس الذي هو مركز هذا الجهد ، كذلك الساعدان ، اللذان هما أيضاً يؤزران العقل في مراقبة صناعة الشيء المراد استكماله ، فهما يلبيان توجيهاته . بينما وزع العتمة بشكل جزئي على الجدار الذي يقع أمام العامل ، ووزعه بكثافة خلف القامة . هذا الهارموني من توزيع الضوء والعتمة ، أعطى للقطة شعريتها ، لأنها استجابت لعقل الفنان الذي درس ما يدور في عقل العامل ، كذلك رصد أهم ما تنتجه مثل هذه الناحية من العمل في صناعة الأدوات من قطع الحديد . فهي صناعة لا تبتعد عن جُهد العقل في وضع الصورة الموافقة للقطته المصنوعة ، ومع الجهد العضلي الذي يساعد العقل في تنفيذ مراده . كل هذا حاول الفنان وضمن اختياراته الفنية أن يضعنا ضمن صورة فوتوغرافية تحتوي حراكاً مرئياً يوحي بطبيعة العمل ، لاسيّما ما كشفه على وجه العامل وهو ينهمك في مقاومة النار وصلابة قطعة الحديد ، الأمر الذي تطلب جهداً عضلياً تركّز في الساعدين وقبضتي الكفين ،حيث كان الضوء أوفر وأقدر على عكس الفعل.
استعادة الحياة هنا ، تعني إعادة الفتوة للأحذية القديمة وجعلها صالحة للاستعمال ، الظاهرة التي تبرز في الأزمات المالية ، وندرة سُبل العيّش. الفنان هنا تعامل مع المشهد ببساطة متناهية ،لأنه مشهد تميّز بالبساطة ، وتلقائية الحيوات . رجل جالس منهمك في ترقيع قطعة جلد كما تبدو . رجل يجلس بالقرب منه على طاولة بسيطة ، الاثنان من الأخوة الكرد . في اللقطة أكد على مجموع الأحذية المهيأة للبيع ، وأشياء الدكان الأخرى ، حيث رصد مساقط الضوء بتلقائية تحكي تلقائية المكان الخالي من التعقيدات والغموض ، فوجود الضوء على كل الأشياء والحيوات يعني عدم اختفاء العتمة التي أسبغت على المشهد نظاماً تلقائياً ، أي ما تخلفه الأشياء وهي تستقبل الضوء . قامة الرجل الآخر حازت على ضوء باهر ، فاض على ما هو قريب منه كالأحذية المعروضة . الاثنان منشغلان عن بعضهما . كل منهما يوزع نظراته على ما يُلفت نظره . المنهمك في خياطة شيء ، يقابله الرجل الذي يعتمر قبعة ، حيث تظهر عليه إمارات الرفاه النسبي الظاهر على ملابسه ، ونظرته إلى أشياء الدكان ، والحقيقة بما تُسمى بـ( البسطية) . في هذه الصورة أحسن الفنان اختيار زاوية اللقطة ، مختاراً البساطة والتلقائية ، لأنها ذات محتوى يُظهر الحالات والظواهر التي ينتجها النظام الاقتصادي .
يحكم الدهشة حالة التأمل في الأشياء ، بما يخلق نوعاً من الاكتشاف خارج الذات . أي أن الرائي يُدرك ثمة أشياء تُحيطه ، لكنها مضمرة ، وحين اكتشافها تتم خلال رؤيتها نوع الدهشة المزدانة في الفرح الذي يُزيل طبقات متراكمة من غياب الصورة الجميلة في الوجود . وفي تلك اللحظة ذكر المثل الشعبي(ضحك خير وشرنه على أهل الزبير) أو ( يا رب اجعلها دايمة ) كأن القائل غير مصدق ما يحدث له . هذه الثيمة حاول الفنان (أكرم) أن يُجسدها عبر لقطات تُعطي معناها من بين معاني كثيرة ، غير أنها تصب في دهشة الرائي ونوع فرحه .ففي صورة التقطها داخل مقهى ، يظهر فها جمع من الزبائن ، لكنه ركز على صبي ورجل بالقرب منه . الصبي يُري الرجل ما نُشر على صفحات الجريدة اليومية ، بينما الرجل يبدو مرتخياً وهو يتطلع إلى ما أشار إليه الصبي . إذ يشتركان معاً في استيعاب المنشور . ولكي نعرف طبيعته ، نرى أن الصورة عكست بهجة ودهشة الاثنين معاً . فالفنان حاول أن يُضفي سمة الفرح ليس على الاثنين والصحيفة ، وإنما على طبيعة الفضاء الذي ظهر عليه المقهى ، عبر توزيع الضوء ، وانحسار العتمة داخله . مما وضع المكان موّضع البهجة المستدامة في الحيّز المكاني( المقهى) كذلك حافظت اللقطة على سعة نظر عدستها خلال سعة المشهد وامتداد حواشيه المكانية ، وفيض الضوء الساقط من الخارج إلى الداخل . فقد استشف الرائي عمق المقهى واحتوائه للزبائن . وذلك باختيار الفنان لمقطع عرضي ساهم في رسم حدود المكان . بينما نجد الصبي في لقطة أخرى وهو جالس بين أكداس الكتب في شارع المتنبي(شارع الثقافة) وهو مبتهج لما اكتشفه في كتاب من بن أكداس الكتب وبالصدفة . هنا الصدفة خلقت للصبي بهجته وسط تعب يعالني منه في يوم اعتاد عليه في الأسبوع لكسب عيشه . البهجة ارتسمت بعفوية كما أظهرتها عين الكاميرا ، وهي من بين بهجة الآخرين التي تخترق جدار الحزن السميك الذي يلف حياة الإنسان .كذلك الصوّر التي التقطها لمشهد الكتب المنطرحة على الأرضيات والأرصفة ، التي هي بحد ذاتها حاوية للبهجة التي يهرع إليها الإنسان في يوم الجمعة ، لإكتشاف ما يصبو إليه . ومهما كان محرك البهجة ونوعه ، فهو نظام أخلاقي يُضفي على حياة الإنسان نمطاً خارج النمط السائد في الوجود . فالعثور على كتاب طال البحث عنه ، ولقاء صديق في الشارع ، وقضاء وقت ممتع في مجمعات الثقافة ومنتدياتها . كل هذا رصده الفنان الفوتوغرافي وهو يتجول بحذر في الشارع متسقطاً حراك الداخلين والخارجين ، والذين لا يملون من التجوال في منعطفات الشارع ، والمشاركين في أكداس العابرين إلى الشارع خلال مياه دجلة . كذلك كراديس الملتفة حول عازف أو مغني .هذه اللقطات هي البهجة المستدامة التي يضفيها الفنان على الحياة . وهذا ما وجدناه في صور الفنان( أكرم جرجيس) الذي حوّل كاميرته إلى أداة ووسيلة توثيق للحياة العراقية ، تخليداً لتاريخه ، ولعل الجانب الثقافي والمعرفي متمثلاً في شارع المتنبي وبهجته ، خير ملاذ اختارته عين كاميرته لتقدم عيّنات من الحياة العراقية التي حصر فرحها ودهشتها وبهجتها في شارع ينفتح أسبوعياً كي يُبدد أحزانهم المتراكمة ، ويزيح تراكم الوهن الذي خلفته الحياة المتعطلة في الوجود اليومي في الأسواق والبيت والحارات ..