ستار كاووش
على امتداد التاريخ. وحتى قبل التاريخ، كان للفخار حضوراً طاغياً ومؤثراً بحياة الإنسان، حين كان يستعمله كآنية للشرب أو الأكل أو الخزن وحفظ الطعام، إضافة لإستعمالات كثيرة أخرى صاحبت البشرية منذ أوقات سحيقة مضت. ليخطو الفخار بعدها نحو التزيين، ويعكس نمط الحياة الاجتماعية التي عاشها الناس، حتى تحوّل مع الزمن الى فن جميل ومهم ومؤثر، أُبتُكِرَتْ من خلاله أشكال وألوان وفورمات ومعالجات وطرق وأسايب لا تعد ولا تحصى. فن يمارسه الملايين وتقام له المعارض والبينالات وتطبع عنه آلاف الكتب وتؤسس لأجله المدارس والاكاديميّات والمعاهد المتخصصة، إضافة الى الورشات الفردية الموزعة في كل مكان من هذا العالم.
لهذه الاسباب وغيرها الكثير كنت متحمساً لزيارة متحف الفخار في مدينة ليواردن شمال هولندا. وبما أن طريقي كان يمر عبر متحف فريسلاند، لذلك دخلت اولاً لمشاهدة معرض الفنان أشر، ثم أكملت طريقي نحو متحف الفخار، الذي يبعد عشرين دقيقة، مشياً بين أزقة المدينة القديمة، وهناك تأكد لي بـأن العالم صغير جداً، لأن هذا المتحف أو القصر الكبير كان بالأساس منزلاً لعائلة الرسام أشر نفسه، والذي زرت معرضه قبل قليل!
ثلاث أو أربع حفنات من تراب الارض وطينها، تتحول بيد إنسان بارع الى جرَّة أو إناء للزهور، أو تغدو شكلاً ساحراً يثير التأمل، تملأه العاطفة وينبعث منه جمالاً خفياً. هذا هو الفخار بإختصار. لكن كيف نخلص قطعة الطين هذه من أسر وجودها العادي لنحولها الى قطعة فنية تقف بقوة وجمال وهيبة، وهي تستقر بجانب اعمال الرسم والنحت؟ هذا مايكشفه لنا تاريخ الطيين وهذا ما يبوح به هذا المتحف الذي أتجول الآن بين قاعاته.
في هولندا حين تقول (أزرق دلفت) فهذا معناه الخزف والبورسلين الذي يعود الى مدينة دلفت، التي تعتبر اشهر مدينة لانتاج الفخار في هولندا لما تحمله من تاريخ طويل ونوعية فاخرة وخصوصية فريدة، حيث كانت تحتوي سنة ١٧٠٠ميلادية على أثنين وثلاثين مركزاً لصناعة الفخار وتصديره الى أماكن بعيدة من العالم، وقتها كانت السفن الهولندية تجوب البحار وهي محملة بكنوز دلفت الزرقاء. وجاءت كلمة (أزرق) كتسمية هنا، بسبب أزرق الكوبالت الذي دخل في رسوم وتزيين كل الفخار الذي يخرج من مدينة دلفت. وقد قابل ذلك، خزف من نوع آخر، صنع في مدينة ماسترخت الجنوبية، وقد تميز هذا الخزف بزخارف مليئة بالالوان القزحية، وقد أنتجت منه ملايين القطع التي انتقلت الـى كل بقاع الأرض تقريباً.
حين نتحدث عن الفخار والخزف والبورسلين، فهنا علينا أن لا ننسى الصين هذا البلد العملاق الذي أسس لهذا الفن وهذه الصناعة منذ آلاف السنين، لهذا شعرت بالهيبة والذهول وأنا أقف في قاعة الخزف الصيني وأَقتَرِبُ من أعمال تعود لأربعة آلاف سنة وأكثر، أعمال مدهشة من حيث الأشكال والفورمات والألوان والحجوم والتزجيج والخطوط والموتيفات. في هذه القاعة يخبرك التاريخ، وتقول لك الإعمال، إن الصينيين هم الذين اكتشفوا صناعة البورسلين في القرن الثامن الميلادي.
في نهاية المتحف توقفتُ قرب جدارية من الموزائيك تعود لسنة ١٧٠٧ وتتكون من ٥٨٥ قطعة، كانت قداستقرت لأكثر من قرنين بمدينة لشبونة البرتغالية، قبل أن تعود إلى هذا المتحف.
ولجلب المزيد من الزائرين، إتَّفَقَ مدير المتحف مع خمسة من فناني التاتو المنتشرين في المدينة، على أن يصنعوا أعمالاً خزفية مستوحاة من الأشكال التي يرسمونها على أجساد الناس. وقد قضى هؤلاء بعض الوقت في تعلم صناعة السيراميك. لينجزوا أعمالاً المعرض الذي بدا لي مدهشاً وأنا أشاهد الانفتاح والالهام في الأبداع، والتحول الذي يعكسه فن على فن آخر. كل شيء ممكن مادام الجمال والابتكار هو الهدف والمبتغى.
أخرج من المتحف محملاً بجمال الاشكال ولمعان البورسلين وذوبان الشكل الفني مع التزيين والاستعمال اليومي. أسير بضع خطوات، وألتَفِتُ نحو المتحف ببناءه الأحمر وسقفه الأبيض، فأرى كيف يُحَلِّقُ الجمال مثل طائر، ويجمع الابداع تحت جناحيه.