TOP

جريدة المدى > عام > ورثة اللافتات

ورثة اللافتات

نشر في: 1 سبتمبر, 2018: 08:25 م

ياسين طه حافظ

قد يوحي عنوان هذه الورقة أني أتحدث عن أجيال الأحزاب، والولاءات، وناسُ فرقٍ ونقابات وأخصُ الأعمال المعتادة للأنصار والمؤيدين الذين يكلفونهم عادة برفع اللافتات والكتابة على الجدران.
أنا لا أتحدث عن أولاء الآن، وإن كان بعضهم من حملة اللافتات وجيل أعقب جيلاً وهم على ذلك الولاء وتلكم المهام أو الواجبات، لهؤلاء حديث الاحترام الخاص أو حديث التعاطف. ونحن، على كل حال، مررنا بتجارب مماثلة ونعرف ماذا وراء الكلام .. تلك أجواء أخرى، فيها تباهٍ وانتظار خير وفيها تضحية وخسارات وقد تعقبها جراح مؤسفة لا تشفى.

لكني اليوم أتحدث عن لافتات أخرى ونمط من الناس آخرين. أتحدث، تحديداً عن امرأة عجوز، قصيرة القامة، تبدو رجلاً، حتى تقترب أكثر منها. هذه تعرّفنا عليها قبل سنتين تحمل لافتة عن إيجار شقة لمن يبحث عن سكن من النازلين من القطار. في السنة الثانية رأيناها في مكانها الأول وكأنه مكمل لشخصيتها ولعملها. كانت تحمل اللافتة وسرعان ما انتبهتْ وابتسمت مرحِّبة بنا وراضيةً عن نفسها أن ثمة من يتذكرها ويقصدها. كان سلاماً مع مزيج عواطف من ترحاب وفرح ومحبة. خيط من الإنسانية دائماً ما يكون مبعث سعادة للناس.
أعطتنا عنوان شقة، غير تلك التي سكنّا فيها من قبل وأكدت لطفها أو اهتمامها، بأن صاحت وراءنا، إذا احتجتم لشيء اتصلوا بي. وفي الدولاب الصغير علبة سكر كما يوجد زيت.. هكذا شملتنا طيبتها التي وجدت لها مناسبة لتأتي. هي تعمل، وتريد تكسب قوتها وما تزال أُمّاً. ما تزال تريد أن ترعى وتعنى ببنين.
سألتُ ولدي، منذ متى تعرّف على هذه الإنسانة الطيبة؟ قال أول يوم وصلت كييف قادماً من دنيتسك قبل ست سنين. هي طيبة وتحدثني مثل ابن بعيد عائد، هي قالت لي مرّة، إنها منذ سنين، وكانت ما تزال شابة، وبعد موت زوجها بدأت تعيش من هذه المهنة.
لم تكن هي الشقة التي سكنّا بها في السنة الماضية، هذه أبعد قليلاً عن المركز ولكنها أجمل وأوسع. عمارتنا، وصف العمارات السبع، على حديقة وأشجار ومصاطب، فكأن نحن نعيش في غابة، كأن في منتجع صحي .. ما أبهجنا أن انعطافة صغيرة، ونحن إلى سلم المترو. وما أفرحنا، أن مطعماً قريب منا متواضع لكنه نظيف جميل معروف بأكلاته ويقصده العارفون به ... هذا أمر طيب يعقب طيباً آخر، ليكون يوم وصولنا يوماً ناعماً ذا هناء ورضا، أقل وصف له أنه وصول جميل.
قبل أن نواصل تتبع "سلالة" حاملي اللافتات، علينا أن نقر، أن نستعين بالحقائق والأحداث التي مرت، تلك هي أن الحياة، مثلما أعانت كثيرين وفتحت لهم الطريق، الحياة أيضاً الحقت الضرر بالكثيرين، بأضعاف من نفعتهم أو أعانتهم .. نترك الأسباب للساسة أو لعلماء المجتمع، علينا، نحن الذين نتنقل بالقطارات أن نواسي بعضنا، أن نشد أزر بعضنا لنستمر على العيش، أعني لنستمر على احتمال العذاب ونقدر أن نعاني أياماً أخرى.
لكننا نظل يجتذبنا الجوهر، الضوء الإنساني الذي بمحبة منه نؤصل العيش و الحياة .. الظروف السيئة تخدشنا، تكسر آمالاً وتوقاً فينا، لكننا ننساها بعد حين ونواصل الانسجام الصعب بالحياة ..
ما يبقى يشعرنا باستمرار المحبة، باستمرار الجذب والرغبة في التواصل، تذكراً أو رسماً أو كتابة عن، اولئك الذين افتقدناهم، من كانوا معنا طيبين في العمل أو الجيرة أو المشفى أو الذين كانوا يخرجون معنا للصيد أو من وقفوا إلى جانبنا زمن الشدة والفزع.
وهكذا تذكرت اليوم العجوز حاملة اللافتة، تذكرت عجوزاً فقيرة، ممتلئة محبة وروح عمل ولكن واضحة عليها صعوبة العيش. ولأكمل الحديث الذي يريحني أن يطول عنها، سأذكر كيف نزلنا هذا العام من قطار كييف وكيف نزلنا سلم المحطة المرمري واتجهنا كما اعتدنا إلى الزاوية القريبة من الفتحة اليمنى آملين أن نرى العجوز حاملة اللافتة، لكننا لم نرها. كان المكان فارغاً، مكانها بقعة قفر في زحام. قبل أن نستدير لسواها، لمحنا فتاة تتقدم باتجاهنا فتاة تحمل لافتة!
كلمها ولدي، سألها عن العجوز، قالت هي أمي، هي الآن مقعدة، الحياة هنا لا تترك أحداً سليماً .. أنا التي صرت مرغمة أقوم بعملها، صرت أنا أحمل اللافتة!
كان موقفاً اعتيادياً بالنسبة لولدي فهو رجل علمي، واقعي، يتصرف بمنطق مع الأحداث والأشياء. أنا الذي أحسست بضربة في الروح، بانكسار، بصدع في الضمير، بالإنسانية التي يدمرها الخبزُ والظرف الصعب. الأجيال التي تتوالى جيلاً يهلك ويعقبه جيل ولا حياة كما تتمنى ... قالت البنت "حسناً جئتم الآن، فعلي أن أتفقدها، تركتها على السرير وألقيت عليها معطفها. منعها الطبيب من أن تنهض لاكثر من أمتار حاجتها، لا استطيع أن أتأخر، لا أريد أن أثقل ضميري، نحن سلالة الفقراء هكذا، كل يكدح عمره حتى يسقط، فيبدأ الكدح أبنُه"، أبنتُه.. لا جديد علينا حتى الحزن نعرفه نحن الواقفين بأبواب المحطات، جيلاً بائساً يعقب جيلاً: سمِّنا ، إنْ شئتَ ، وَرَثَة اللافتات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

انتقائية باختين والثقافة الشعبية
عام

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

د. نادية هناوي يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram