ستار كاووش
ذات مرة، أراد أحد النقاد، أن يؤلف كتاباً مصوراً عن بيكاسو. يتناول فيه جوانب من حياته اليومية وبعض افكاره وتقنياته في الرسم، وكان بحاجة لقضاء بضعة أيام، صحبة الرسام العبقري. وافق بيكاسو على طلب الكاتب بالبقاء أياماً في مرسمه. مرَّت الأيام، والكاتب يلتقط الصور ويكتب التفاصيل والملاحظات. بعد فترة، توقف فجأة، وخرج من مرسم الفنان العظيم، ومَزَّقَ كل ما صنعته كامرته وما وكتبه، وأَبقى على صورة واحدة فقط، صورة وحيدة لاغير! يبدو إنه كان يفكر بشيء مُكَثَّفٍ أكثر من العادة، وهو يمسك بكامرته في لحظة تجلٍ مشرقة، ويلتقط تلك الأيقونة في غفلة من الفنان العبقري. لقد إختطف الصورة لبيكاسو من الخلف، وهو يبدو كمن يدير ظهره للكاميرا، وهو منشغل في المرسم، نصف عارٍ، لا يرتدي سوى البنطال القصير. وإكتفى بعد ذلك بنشر هذه الصورة، بعد أن كتبَ تحتها (بيكاسو، هو الفنان الوحيد الذي إستطاع ان يدير ظهره للعالم)، حينها نالت الصورة مع التعبير الذي رافقها، استحساناً وتفاعلاً كبيراً من المتابعين.
في تلك الالتقاطة المذهلة تُكْمِنُ عبقرية المصور الكاتب في القبض على لحظة مشرقة، فيها إختصار لعبقرية بيكاسو وتكثيف لنبوغه الفني، إنها تحمل وصفاً دقيقاً لجرأته وتحديه وتجاوزه قوانين الفن، وابتكاره قوانين جديدة أثَّرَتْ علـى ملايين المبدعين في العالم. ألم يقل الصينيون في مثلهم الشهير (إن الصورة تساوي ألف كلمة)، وها هي الصورة الساطعة التي تجاوزت الكثير من الكلمات، وربما ستتجاوز أهميتها كثيراً، ذلك الكتاب، فيما لو تَمَّ إنجازه بالفعل. بإختصار شديد، إنها إلتقاطة نادرة اجمل من نظريات وبحوث تلف وتدور حول نفسها في الغالب، بدون نتائج جمالية مفهومة، وبلا وضوح ولا تكثيف ولا رؤية حاسمة.
وبالعودة الى بيكاسو، كيف يستطيع الفنان أو المبدع أن يدير ظهره للعالم؟ وهل بإستطاعته فعل ذلك حقاً؟ فالمبدعون سواء كانوا صغاراً أم كباراً أو حتى عباقرة، يسمعون من الآخرين كلمات مثل (اذهب في طريقك ولا تتردد) أو (إخطو خطواتك بلا خوف) أو ( إحرث أرضاً غير محروثة سابقاً) وهكذا. لكن أن تدير ظهرك للعالم فهذا استثناء لا يقوم به سوى أشخاص مثل بيكاسو أو فان غوخ أو غاليلو الذي أدار ظهره للجميع أيضاً، وقال كلمته الشهيرة ( لكنها ستبقى تدور). فالفرق كبير بين فنان يتبع الآخرين ويقلد خطواتهم بحجة ( وقوع الحافر علـى الحافر) أو المحاكاة أو التأثر، وبين عبقري يفتح النافذة بشكل صحيح لنرى مشهد حياتنا بشكل أفضل، إنسان يصنع التاريخ، بل يغيره ويشكله من جديد، ولا يتوقف عن ابتكار أدواته التي لا تشبه أدوات الآخرين وخطواته التي لاتقترب من خطوات غيره. إنه يصنع الطريق ويعبده ويمضي به وحيداً ليتبعه الآخرون. هنا يكمن الخيط الأحمر للحكاية، وهذا هو مربط الفرس كما يقولون.
إن كان أديسون قد إخترع المصباح، فبيكاسو هو من أمسكه بيده ومضى يضيء الطريق لمن جاء بعده. كان تأثيره طاغياً، لدرجة لم يستطع فيها الكثيرون التخلص من هيمنة تقنياته، ومنهم على سبيل المثال الفنان ديفيد هوكني الذي تأثر به كثيراً، ولم يستطع أن يقاوم سحره حتى وإن حاول ذلك. وقد قال كلمته الشهيرة عند وفاة بيكاسو ( إرْتَحتُ الآن، لقد مات بيكاسو).
لم يسبق لفنان أو شخصية فنية أن حظيت بشهرة وحضور طاغٍ كما حصل مع بيكاسو الذي غطى القرن العشرين كله تقريباً ومارس كل أنواع الفن التشكيلي، وانتقل من الرسم الى النحت والسيراميك، ثم الغرافيك والأعمال الطباعية المختلفة، ورسوم الكتب، والتخطيطات والمائيات والإعلانات والفن التجميعي والأقنعة والكولاج وغيرها الكثير، هو الذي عاش اثنين وتسعين سنة قضى منها ثمانين سنة تقريباً كفنان محترف. لا يتطلع المبدع لأكثر من ذلك، ولا يحلم الناقد المتابع بأفضل من تلك الصورة المضيئة التي أُلتُقِطَتْ لبابلو في مرسمه عارياً سوى من عبقريته وبنطاله القصير.