TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: وماذا بعد جنازة مكي عاشور؟

قناطر: وماذا بعد جنازة مكي عاشور؟

نشر في: 4 سبتمبر, 2018: 08:56 م

 طالب عبد العزيز

لن تترفق الطبيعة بسياسي البصرة فتمنحهم المبكر من مائها السماوي أو المدخر منه في الأرض، قبل أن تبلغ تظاهرات الشباب غايتها في تسفيه آلية ونظام الحكم في العراق. خابت ظنون محترفي الكذب والدجل والتمتع بالرضيعات والخرطات الألف. بين وجهتي النظر (الحياة وقوامها والسياسة ونذالتها) يقف البصري اليوم، مقدماً أنموذجاً قاسياً للاحتجاج ومتظاهراً صلباً، مطالباً بما هو أبعد من الماء والكهرباء والخدمات، هناك أفق يتشكل خارج الأطر هذه، ونشدان لما يجب أن تكون عليه الأيام والشهور والقادم من السنوات، إنها الحياة، نعم، هل كان العراقي يملك حياته كما يجب، أبداً.
فكرتُ طويلاً، في كلمات والد الشهيد مكي عاشور، الذي سقط برصاص القوات الأمنية في تظاهرات أمس الاول بالبصرة. كان يقول لضابط الشرطة:" دعني، أكشف عن وجهه، هذا ابني، الذي سقط شهيداً من أجل البصرة". لم يأسف على رؤيته ميتاً، كان قوياً، شجاعاً بحق، وكانت نظراته متفرسةً، تتطلع مع الذين كشفوا عن موقع الرصاصة التي ضربته، لم يخف عليه وهم يقلبونه، أبداً، إنما ظل يتحدث بدمع جامد عن موقف ابنه، الذي خرج متظاهراً، مطالباً بحقه في الحياة، حتى لحظة سقوطه مقتلولاً. مشهد جديدٌ يتأسس في المدينة التي سرقت، والتي لم يتنبه لمواجعها أحد منذ عقود، هذه خلاصة، لم تكن وليدة ماء مالح ونقص في الخدمات، هي بحثٌ دؤوبٌ عن فصول لا تعد، لحياة كانت كاملة، أريد لها أن تتمزق داخل كتاب كبير يستل كلما أريد أخفاؤه، اسمه البصرة.
يبحث الانسان العراقي في ما يبحث، عن صلة له بالحياة، التي يحياها الآخرون، في البلدان التي تجاوره، والتي يسافر لها، يقارن بين أداء حكومته والحكومات هناك، بين الخدمات المقدمة، بين الشوارع والاسواق والحدائق وفرص العمل وأماكن الترفيه والسهر فتصعب المقارنة عليه، ولو تطلعنا في وجوه المتظاهرين لوجدنا أنَّ 95% منهم من الشباب، هذه الطاقات التي يعول عليها في البناء والنهوض وتحقيق المستقبل الآمن، والتي تواجه بالرصاص وخراطيش المياه الحارة والمالحة هي التي يعول عليها في رسم وجودنا بين الأمم وتحقيق حياة أجيالنا القادمة، لكنها بُعثرت في السياسات الخاطئة والحروب والتجهيل، على أيدي نفر عنوانه الفشل، ولا يعي آلية إدارة الدولة. ولكي يؤمنوا ديمومة العجلة الخربة، التي تقلهم كل أربع سنوات الى مبنى البرلمان، أنتجوا لنا جيلاً جُبل من التشدد والتعصب والطائفية والعشائرية والبغضاء، جيل قلما يفكر بغير البندقية حلاً في أزماته، حتى مع نفسه.
أحدّق في عيني والدة الشهيد مكي عاشور، التي حملت صورته في التشييع، أمس الأول فأرى إنها لم تغير من لون ثوبها المنزلي، ظلت تسير في الموكب الطويل تغالب شجنها، لكنني أبصرت دمعاً جامداً ويدين تحملان زجاجة أمل بعثرها الرصاص. كانت السبل سالكة تماماً أمامها لكي ترى ابنها وهو يدخل البيت، قادماً من مقر عمله، حاملاً أكياس الفاكهة والخضار، ثيابه نظيفة، وعيناه تقطران سعادة، وما ذلك بمعجز، لو كانت إدارة البلاد تعي ماذا يعني أن تسير أمٌّ في جنازة ابنها طويلاً. مسافة محرقة وحديث خفي طويل بين راهنين لا ثالث لهما، لم يتحقق أولهما، فيما تحقق الثاني بكل فجائعه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram