طالب عبد العزيز
البصرة مدينة كل ما فيها يُشترى بالمال، بما فيه الهواء، نعم، الهواء البارد نشتريه والماء الحلو أيضاً، نشتريه، والكهرباء نشتريها، نحن في البصرة نشتري كل شيء، ولا أقول وقود مولد الكهرباء ولا جهاز تحلية الماء، بفلاتره الملحية، لكنني أقول حياتنا وحياة أولادنا وأحفادنا تُشترى وتُفتدى بالمال. خزان الماء الذي على سطح الدار والسيارة التي في كراج البيت يثقبها الرصاص الطائش، فنصلحها بالمال، والسجادة الملقاة على سياج البيت يسرقها لص النهار، قنينة الغاز خارج باب المطبخ يسرقها لص الليل، وحقيبة الزوجة يسرقها لص السيارة المسرعة، وهي في طريقها الى الطبيب بسوق العشار، يخلع كتفها ويسرقها، بما فيها من مصوغات وهاتف ونقود ثم يتوجب علينا أن نداوي بالمال كتفها المخلوع. حياتنا كلها تُسرق في المدينة المنكوبة هذه، لكن، لا أحد يشتري همومنا.
يتوجب على الذي يبني بيتاً جديداً شراء الماء العذب، مثلما يتوجب ذلك على أصحاب مصانع الطابوق الإسمنتي، لأنَّ ماءنا في البيوت لم يعد صالحاً لغسل السيارات، بل، ولا يصلح للوضوء. يقول الفقهاء فيه من التراكيز مانع. وتذهب حكومتنا الى بناء محطة تحلية مياه كبيرة، من أجل توفير الكمية الكافية من الماء في حقن آبار النفط، معلوم أن الماء المالح يشكّل خطراً في عملية حقن الآبار النفطية أيضاً، وأن المحطة هذه ستكلف ملايين الدولارات، وإلّا توقفت أعمال الحفر والاستصلاح، ويتحدثون عن نسب أملاح عالية جداً قرب محطتي الكهرباء في النجيبية والهارثة، وأنَّ المحطتين مهددتان بالتوقف بسبب ارتفاع نسب الأملاح في الماء المستخدم في عملها، بما يعني أن حجم كارثة العيش في البصرة تتفاقم، والمواطن يدفع ثمن وجوده حيّاً وميتاً.
في البصرة وعقب كل حرب مسلحة بين عشيرتين، ثمة خسائر في أرواح لا علاقة لها بمن تقاتل، وهناك من يأخذ سيارته الى السمكري ليسد الثقوب التي أحدثها الرصاص الذي تطاير من الجانبين، وهناك من سيتحمل ثمن إصلاح خزان البلاستيك المثقوب، مثلما يتحمل البصريون سنوياً أثمان إصلاح واستبدال صنابير وحنفيات منازلهم التي يأكلها الماء المالح، وعليهم أيضاً، أن يستبدلوا عشب وشتلات وأشجار حدائقهم الذي أهلك بالشمس والمالح. هل أقول بأنَّ القمصان والسراويل والملابس الداخلية صارت كما الصفيح وقد هرأها الملح، وأن غسالات البيوت تعطلت، هل أقول بأننا نشتري الماء الذي نستخدمه في الحمامات والمرافق الصحيّة، وأن أنواعاً من الأمراض الجلدية لا عدَّ لها باتت تصيب أطفالنا ونساءنا؟ وأننا لم نعد نستخدم المساحيق في غسل ملابسنا، أم نكتفي بقولي إننا نشتري، ومن رواتبنا التقاعدية الماء الذي نغسل به أمواتنا، وأننا ندقُّ الثلج على جنائزنا التي ترونها على الطريق بين البصرة ومقبرة السلام.
يقول فلاح من السيبة، وهي قرية جنوبي البصرة، على شط العرب، بأنَّ أهل السيبة هجّروها ثلاث مرات: في الحرب عام 80 وبسبب المدّ الأول في 2009 وثالثة في 2018 بسبب المدّ الملحي، وأنفهم خسروا كل شيء، حتى فسائل النخيل التي غرسوها لم تسلم من جواميس المعدان، الذين دخلوا السيبة بعد أن حاصرهم الماء المالح هناك. لكأن لسان الحكومة في بغداد يقول للبصريين: "إلّا طحين، فأين تفرون"؟.