ستار كاووش
يشكل الماء جزءاً كبيراً ومهماً من تاريخ هولندا وثقافتها وطبيعة الحياة فيها، هذا البلد الذي يسمى الأراضي المنخفضة، يحيطه بحر الشمال من جهتي الغرب والشمال، يقع فعلياً تحت مستوى سطح البحر، وتحميه السدود من جوانب عديدة. وبما أن مقاطعة فريسلاند التي أعيش فيها تعتبر من أكثر مناطق هولندا التي تشغلها الأنهر والقنوات والبحيرات وكذلك سواحل البحر، لهذا رأت المقاطعة إن الاحتفال بالماء شيء يعبر عن ثقافتها وروح تقاليدها الممتدة عميقاً مع البحر، حين كانت السفن الهولندية تجوب آفاق العالم شمالاً وجنوباً.
لهذه الأسباب تم اختيار أحد عشر نحاتاً من مناطق مختلفة من العالم، ليقوموا بتصميم وتنفيذ أحدى عشرة نافورة تتوزع على أحد عشر مدينة في ذات المقاطعة. المدن التي تمّ اخيارها صغيرة ومترابطة مع بعضها وتشكل ما يشبه الحلقة التي تحاذي ساحل البحر، وتربط بينها قنوات مائية على شكل حلقة دائرية تقريباً، وتتحول هذه القنوات في الشتاء الى مكان تزلج شهير في هولندا، يطلق عليه (تزلج ١١ مدينة).
افتتحت النافورات قبل فترة قريبة بشكل يليق بحدث جمالي كهذا. وأنا بطبيعتي لا أُفَوِّتُ مثل هذه الأحداث، خاصة إنه لا يبعد عن بيتي كثيراً، لهذا قمت بجولة بين هذه النافورات لأرى رذاذ الماء وهو يتلألأ على جوانب وسطوح التماثيل ويقترب من وجوه المارة.
بدأت بنافورة (العاشقان) للنحات جاوم بلينسا، والتي وضعت قرب محطة قطار مدينة ليواردن، وهي تمثل رأسين متقابلين لعاشقين بارتفاع سبعة أمتار وبلون أبيض ناصع يضيف صفاء وسكينة للمكان، حيث تتناثر حبات الماء. أكمل طريقي لمدينة سنيك الشهيرة بالزوارق والسفن الصغيرة التي تلتمع أشرعتها وهي تخترق وسط المدينة. وهنا انتصبت نافورة (الحظوظ) النحات ستيفان بالكنهول، حيث يقف رجل على كرة وسط القناة وهو يصب الماء من إناء يحمله على كتفه. ثم تأتي مدينة آيلست التي صممت نافورتها الفنانة شينجي أوهماكي واعطتها تسمية (الزهور الخالدة). أما مدينة سلوتن فكان من نصيبها نافورة (نظرة مختلسة) وهي على شكل شخص يقف على كتف شخص آخر، وهو يمسك طائراً يوشك على الانطلاق. أقطع الطريق لمدينة ستافورن التي تقع على حافة البحر باحثاً عن نافورة (السمكة) للفنان مارك ديون، التي ظهرت من بعيد وقد تجمع الكثير من الصبية يلعبون ويتراشقون بالماء الذي أخذ يتطاير من فمها الكبير المفتوح. أستمر بطريقي على حافة بحر الشمال لأصل الى مدينة هيندلوبن، واشاهد نافورتها(نباتات وحيوانات) التي صممها الفنانة شين يوان على شكل شجرتين مقطوعتين تستقران على العشب وبينهما شجرة واقفة، تستقر فوقها مجموعة من الطيور. أكمل بعدها رحلتي نحو مدينة فوركم لتستقبلني نافورة (الأُسود) للنحاتة كورنيليا باركر، حيث بان أسدان كبيران واقفان ويرفعان قوائمهما الامامية الى الأعلى، وقد تدلى منها الماء الذي يشبه زخات المطر. أبتعد عن ساحل البحر قليلاً لأصل الى مدينة بولسفارد حيث نافورة (الخفاش) للنحات جون كريتن تقف قرب كنيسة كبيرة، بجناحين كبيرين ورأس مندفع الى الأمام يتطاير منه الماء في مشهد أثار انتباه الأهالي الذي تجمعوا منبهرين بالمشهد. أقترب من البحر مرة أخرى، حيث مدينة هارلننغن الشهيرة بصيد السمك والصيادين الذين يقضون أياماً وسط البحر، لأتأمل نافورتها (الحوت) التي صممتها الفنانة جنيفر ألورا على شكل حوت كبير يطلق عمودياً نافورة الماء من رأسه، وقد بدا المشهد حقيقياً لوجود الحوت وسط الماء. أما مدينة فرانكرن فكانت نافورة (الغيمة) من نصيبها، وقد صممها بشكل مذهل، الفنان جان ميشيل أوتونيل. أكاد أكمل دائرة المدن وانا اصل الى مدينة دوكم لأتوقف أمام نافورتها (الثلج) للفنانة بيرته ليماير، والتي كانت على شكل طبقات من الثلج المتداخلة مع بعضها.
أقترب من مدينة ليورادن التي بدأت منها مشواري الذي استمر يوماً كاملاً، وأنا أجوب هذه المدن الصغيرة التي رغم ماتحتويه من ماء، فقد أضيفَ لها ماء هذه النافورات، لتغفو مساءً على ساحل البحر وضفاف الأنهر، وتصحو صباحاً على خرير النافورات.