TOP

جريدة المدى > عام > الوصول للكنيسة

الوصول للكنيسة

نشر في: 22 سبتمبر, 2018: 06:15 م

ياسين طه حافظ

نحن الآن في مقدونيا، في واحدة من ولايات يوغسلافيا الشاسعة، هي لا تبتعد كثيراً عن حدود اليونان. أبطال إغريقيون سكنوا هذا البقاع أو طاردوا أعداءهم أو مروا عائدين.. سيارة الوفود حطت في هذا المكان الذي احتفظ بأقاصيص وبطولات. ونحن بين أشجار الزيتون، كل زيتونة عليها عتمة، عتمة في الورق والأغصان، وكل شجرة زيتون سيدة صبور على النوء ملتفة بمعطفها الأخضر لم يتغير منذ عصور ... حينما تنظر هناك، إلى الشجر أو السفوح المنحدرة أو ممرات الصعود وإلى الأكواخ الحجرية، ثمة لون يريد أن يشرق ولا يستطيع. ذلك واضح قريب منا في عناقيد الزيتون تتدلى مثل مجاميع من خرز أخضر، يصفر، يحمر، يسود . وهذه الباب الباقية من زمن قديم. أسال : من لهذا الزيتون في الغابة؟ ومتى يصل موائد البيوت أو المطاعم أو يُقَدم في أطباق بلدية مع الوجبات؟ وهل تدري غاية الزيتون بما ستؤول إليه عناقيدها التي تتدلى الآن؟ لكن هل نعلم نحن ما ستؤول إليه أوراقنا، ابناؤنا وما يصادفهم أو يصادفونه؟
لاحت البلدة على مرتفع، على ربوة فاتحة الخضرة، سوداء شاحبة من بعيد، ربما هي تكتسي بغلالات من ضباب وغيم، ربما هو زحام الاشجار الواطئة التي تريد أن تعلو، لكنها سفوح ناعمة بلا صخور....
حيثما اتجهت لا مستني ابتهاجات صغيرة، رغبة في استدارة، ولوج أكثر في بلدة خرافية. تتقاسم أو تتقاسمها الأشجار. كما في حلم أطأ العشب، مختلطاً أخضر ويابساً، يبدو كما مرسومة رسماً عليه تموجات الكون.
وصلنا البلدة ، في الوصول الى المقاعد الخشبية شعرت بالتعب أكثر وأني أحمل أجواء العالم الذي مررت فيه، فاتكأت مثل من يستريح.
ذلك حانوت صغير قرب ساقية تنحدر لامعة، ربما هي امتداد من شلال بعيد، الحانوتي يهيئ صحون أطعمة صغيرة وزجاجات جعة ونبيذ، حانوت نظيف وأنيق، صاحب الحانوت الكهل يعمل بجد وبفرح. وابنته ذات الضفيرة الذهبية، لطيفة الابتسام والحركات، تخدم الموائد كما تزورهما. وقد تهطل تنحني خصلات من شعرها الذهبي فتنشغل باعادتها. هي ما تزال لم تغادر الصبا كثيراً ولكنها عرفت كيف تقتنص خبرة الأغواء.
الحانوت الصغير المغطاة واجهته ببساط من المرمر وسقفه الجملوني بالقرميد الأحمر، يتضح مقصورة بين الأشجار وحيث انكشاف الفضاء. هو يبدو ملاذاً فيه حميمية غير مرئية ودفء لقاءات. في آخره جَدةٌ وحفيدتها الصغيرة، تلعب في الجوار قريباً منها. العجوز تشرب شايها وتقضم شيئاً لا أعرفه، تمسح فتاته وتعاود أكمال المهمة..
وراء هذا الحانوت، الكشك الحجري الأنيق، ذي القرميد والقناديل الشرقية، مائدة أخرى، لاحت عليها الجالسة هناك. التمع حضورها في الفضاء الحالي، هي جالسة غير مستقرة كما لتطير، لتستقبل من كانت على موعد معه. الانتظار أشاع دفئاً في بدايات البرد، ها هو يتوجه لها نهضت شبه طائرة نحوه، واعتنقا! كنت أتابع ذراعيها تحيطان به، التفاف ساخن على البهجة في العالم!
حين افترقا، توقفا قليلاً، ثم عادا إلى مقعديهما، اعتنقا ثانية وتدفقت لغة لا يسمعها أحد، كنت سعيداً أنظر لدقائق البهجة، لاحتفال الأرواح والتقائها الحميم ..
صديقي وحبيبته المقدونية، واضحة الزهو بخلاسها وطولها الحلو ووجهها يلفت أيما عابر إليه، اقترحا تغيير المائدة إلى تلك التي وصلتها الشمس، كنت في حال سكينة، في حال رضا أن في هذا الحانوت، الكشك، المقصورة الصغيرة في الغابة، في هذه الكابينة الأنيقة التي يقصدها الناس، وفي هذه، الجلسات البسيطة لتناول سناك أو زجاجة، مما تحتاج الروح أحياناً إليه، أحس أن الجلوس الهادئ هناك يهب راحة ويشعر الهانئين به بجو من المساواة والتفاهم الإنساني. هذا لا نجده في الفنادق الباذخة والمطاعم الصاخبة ذوات الاتكيت والتمثيل والانتظارات وكذب تذوق النبيذ الذي ينتهي بهزة رأس أن نعم، أو لا بأس..
نهضت العجوز الشيباء جوارنا، كانت متعبة، وضح الوهن على مشيتها، ثم توقفت كما تنتظر شيئاً . ما خطر لنا أنها توقفت بسبب قدرتها على المشي. انتبهت صديقتنا الصربية، سألتها إن كانت بحاجة إلى شيء. قالت : "لا ولكني أردت، كان في نيتي، الذهاب للكنيسة. جلست هنا أستريح، تناولت حبة، يبدو أن طريق الكنيسة لم يعد بالسهولة التي كنت أصل بها، تغيرت الدنيا، عفواً، بابتسامة أسف، أنا تغيرت، الكنيسة في مكانها، الكنيسة لا تتغير". قلنا لها : "حسناً، نحن ماضون في هذا الطريق، كوني معنا قد تحتاجين عونا" ردت : "نعم، نعم، ربما ... ثم هذه الشيخوخة، لكن ماذا للنساء غير بيوتهن وأحَدُ الكنيسة ثم هذه الشيخوخة وأسف اللاوصول. كل هذا يبعث على الألم، أنا كنت لا أتعب، كنت ... ذلك كله مضى ، أنا الآن لا أستطيع الوصول للكنيسة!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram