علي النجار
لم يكن شاكر حسن قبل عام 1966، ولم يكن رافع الناصري حينما عاد من(برشلونة) عام1969 كما قبلها. بعد أن أقصيا ممارستهما التشكيلية الواقعية، سواء الأكاديمية أو مخرجاتها المحلية. ولم يكونا وحدهما من أشاع منطقة التجريد الإشاراتي وتقنية المونتاج والتلصيق. فقد كان مهر الدين بعد عودته من بولونيا حاضراً أيضا. كما لا ننسى تجربة اختبار المواد المضافة (الصفائح المعدنية) لسطح العمل لـ(صالح الجميعي) الذي خبِر التصميم المطبعي. مثلما هي حاضرة التجربة التدريسية لأستاذ الكرافيك البولوني (آرتموفسكي). لم تكن كل تلك التجارب الطليعية إلا معبراً لزمن تشكيلي جديد، مقصية ممارسات الرواد التشكيلية للخلف. ما عدا القلة منها، كما عند الأكثر شباباً كاظم حيدر. وكما في محاولات بعض من فناني جماعة المجددين في أواسط الستينيات. لقد كانت الساحة التشكيلية الفنية مهيأة للانتقال لمناطق اشتغال أكثر حداثية(زمنياً) من سابقتها. وليمهد لاعبوها الجدد الطريق لاشتغالات وتنظيرات للغز العلامة والإشارة والحرف مجتزأ من نصه أو حتى نصوص قابلة للتدوين الفني.
بعيداً عن ذلك نسبياً وبما أن الفنان العراقي بعض من زمن الحداثة بعد انفتاح الستينيات. فقد كان ثمة أثر يوازي منطقة الفن الشعبي الأوروبي(البوب آرت). ولكون بغداد وبقية مدن العراق ليست كما أضواء نيويورك أو لندن. لذلك فهي اشتغلت مع مجموعة من الفنانين(ضمن الولع الشعبي)على التشخيص الأثري والفولكلوري المحلي. كما في أعمال محمد مظلوم وحميد المختار وضياء العزاوي في فترة الستينيات وليبقى أثر من ذلك حتى وقتنا الحاضر. ولم يكن التأثر أيضاً بالفن البصري(الأوب آرت) بعيداً عن الساحة التشكيلية الستينية، كما في بعض من أعمال(هاشم سمرجي) بمرجعية(برجيت ريلي ) وآخرين. ولاحقاً(مهدي مطشر) الذي كرس نفسه له لكن في حاضنته(فرنسا). بصورة عامة لم تخلّف الاشتغالات الأخيرة في(البوب) أي أثر يذكر على الساحة التشكيلية العراقية، لأسباب معروفة.
ماذا حدث لمنطقة الاشتغال الواقعية. هل باتت من الماضي، أم ما تزال فاعلة. إن كانت السبعينيات حقلاً تجريبياً للحرف العربي وبعده الواحد الذي مهد لاكتشافات أخرى. رغم وجود نظائر لها في أعمال فنانين غربيين معدودين. أنا هنا لا أحاول فصل المحلي عن العالمي. اذ هو حال تشكيل الرواد أنفسهم، ولو بنسبة ما زمنياً. لكني أبحث عن الضرورة. والضرورة كما وردت على لسان وتنظيرات الفنانين أنفسهم نابعة من البحث عن خصوصية تشكيلية عربية في الفضاء العالمي. وهي خصوصية حروفية بامتياز. مع ذلك فأنا أجدها تمثل خصوصية إشكالية. فان لم تكن كشفاً بالمطلق. فهي محصورة بدلالة الحرف والنص وبالأثر الماضوي وليس الحاضر. من هنا هي تنطلق من المفهوم المروج له عن(التراث والمعاصرة) الذي عم التشكيل العربي في السبعينيات أو أواسط الستينيات. كمنحى لاستعادة هوية مفقودة.
بشكل عام لم يكن ما قبل النصف الأول من القرن الماضي مثل نصفه اللاحق. ولم تكن لعبة حقب أجيال كما أشيع بقدر لعبة تحولات بصرية وتحولات في الذائقة الاجتماعية الناهضة بفعل تنظيرات ثقافية وسياسية فرضتها الساحة المحلية نتيجة لضغوطات السياسة الخارجية في معظمها. وما صاحب من نهوض الحس القومي كردة فعل لها. إذا كان التحوّل من التشخيص الى التجريد العلاماتي محكوماً بالظرف الثقافي السياسي المحلي. ولم تكن التجربة بمجملها نابعة عن تطور عضوي لمسيرة التشكيل العربي، بما يوازي ما حدث لها أوروبياً. ما عزز هذا المنحى سطوة خطاب شاكر حسن في العراق واشتغاله الدؤوب لتأسيس نواة فنية تنسجم وخطابه النظري وبمقاربة لمصادر استلهامات أعماله وصولاً الى(شيئيته) التجريدية البيئية.
ان بداية التحولا ت منذ منتصف الستينيات. فاعتقد انها استمرت محلياً حتى عام الاحتلال(2003). كانت السبعينيات هي المجال التأسيسي الأكثر فاعلية. إلا أنه منذ بداية الثمانينيات وما تلاها حتى حدوث الكارثة، بقي الفضاء التشكيلي العراقي محكوماً بمحليته، بسبب من قطع الاتصالات بالعالم نتيجة للحرب وما تبعه من أبشع حصار. ولم يكن أمام التشكيليين سوى تداول تجاربهم وإعادة تدويرها ذاتها. وكانت بداية القطيعة.
ضمن هذا الظرف غير الطبيعي نضجت تجربة الفنان التشكيلي العراقي(كريم رسن). في فضاء عام ملتبس عمق مأساة الحرب والتسلط الذي صادر حق الفنان للتعبير المباشر عن الهول الذي أصاب المجتمع العراقي من جراء كل هذه المآسي. ففي ظل سلطة حوّلت حزبها الأوحد الى منظومة توليتارية قامعة مهيمنة. لم تكن اليد المرفوعة في احدى رسوم الفنان مهر الدين في الثمانينيات، تمثل يد هتلر ولا يد صدام حسين. لكنه استدعي للتحقيق عن هوية هذه اليد المرفوعة. لذلك لم تكن للمدرسة التعبيرية كما نعرفها في الأعمال التي خرجت من أزمات الحروب والكوارث في بلدان أخرى من أثر فاعل في التشكيل العراقي عموماً قبل 2003.
لم يكن أمام كريم رسن ومجايليه من جيله الأقربين إلا البحث عن وسائل تعبيرية مواربة لإيصال خطابهم الفني الذي يعبر عن نوازعهم الداخلية. كانت الفسحة الممنوحة أضيق ما تكون، لتنفتح عليهم مساحة التجريد العلاماتية بقدر ما تعينهم على البوح بحدود تأويلات لا مباشرتها. من هنا كان خطاب كريم يقبع ملغزاً خلف تراكم سطوح مواده البنائية وحِزوزها وآثلامها واختراقاتها علامات وإشارات جسدية.
أعتقد أن كريم رسن ومنذ رسوماته الأولى في أواسط الثمانينيات، اختار المنطقة التي سوف يحولها الى حقل تجارب متتابعة. بعد أن أقصى الدرس الواقعي من اهتماماته. لقد كان محملاً بإرث متحفي وعلاماتي محلي كأسلافه السحرة الأولين. كانت علاماته أحلاماً بشرية تفضحها سريرتها الجمعية بداءةً وإفصاحاً في آن واحد. وكان سطح العمل لديه يتشكل من حكايا سرية، رغم عدم إخفاء بعض من بوح مرموزاتها. الدمية السومرية والأجساد البدائية وبعض من أعضائها تتواشج ورسوم السحر والتعاويذ الشعبية. هي قريبة وبعيدة في نفس الوقت عن طرائق تعبير الفن البري(رغم انتماء أشكالها ورسوماتها الى مرجعية عامة). وسائط بنائية حداثية ولع الاشتغال ضمن منطقتها التعبيرية دوماً. لقد كان سطح العمل من أبرز ميزات أعماله الفنية. بعد أن حوله حقل تجارب. مثلما كان المفضل عند شاكر حسن آل سعيد المبشر به أصلا. كريم لم يدع لولعه السطحي هذا أن يتسرب من بين يديه عبثاً. بل ليصل بتجربته لمداها خلال العقدين اللاحقين. وليكرس تقنية الخراب في أعماله. كمعادل لخراب البيئة نتيجة لسطوة زمن الخراب الكارثي الذي انتهك ولوّث المادة الإنسانية والبيئية.
أعتقد كانت التسعينيات الحقل الأرحب لتجارب كريم رسن. بعد أن تفرغ للعمل الفني في محترفه، ليطوّر من عدته التشكيلية. لتتحول الأشكال التشخيصية الاشاراتية الخطية بتقنيتها التي تقترب من تقنية الحفر الكرافيكي(الكواتنت) بتقشف خلفياتها اللونية وخطوطها أجساد هي علامات إرث ماضوي ومحلي الى أشكال ملونة هي أقرب ما تكون لملونة البيئة. بمعنى تداخلت مع نسيج خلفيتها وطبقاتها المتراكمة وكأنها جزء عضوي منها، لا كمضافة تعوم على سطحها. وأعتقد لو شاركت أعماله أواخر التسعينيات في عرض(البيئة والمحيط) الذي نظر له وشارك فيه شاكر حسن آل سعيد. لكانت الأقرب حسب وجهة نظري لمغزى العرض. لكون اشتغالاته ولزمن أسبق مشتقة من عناصر البيئة. وإن لم تكن بيئة صالحة للعيش. لكنها المنتهكة التي خبرناها في أزمنة القصف ومحنة تبعات آثار سمومها. اشتغالات كهذه، إن برزت بعض جمالياتها. فالأعمال الفنية لا تفقد إشكالية مفهومها الجمالي، حتى ولو كانت غير مألوفة.
كريم إن اشتغل على الدفاتر الفنية، كما بعض مجايليه. فتلك الدفاتر ما هي الا أعمال مفهومية بقدر ما. تجربة حالها حال العديد من تجارب الدفاتر التشكيلية المتأخرة. مجموعة نصوص بصرية هاجس الفكرة ما يوثق أواصر مفردتها. ربما كمفردات متكررة مع بعض التغييرات الضرورية. ربما مفردات متنوعة ترتبط بخيط سري. لكنها بشكل عام معدة للعرض كألبومات مختلفة تصاميمها. هي أيضا بشكل ما قابلة لتُعرض كرسوم أو قطع معمولة بتكنيك معين مفردة أو جمعا. قابلة للفرز وقابلة للضم في آن واحد. وهي ميزة عروض الـ(الكونسبت). وأنا أعرف بأن كريم بنى فكرته قطعة فقطعة كبنيان تسند أحجاره بعضها البعض الآخر، ضمن فضاء عاطفي ومعرفي كان يتلبسه وقت تنفيذها. وما عناوين دفاتره الا إشارات واضحة الى ما يعيشه كفرد عراقي واعي بما نصب له ولنا من فخاخ ليس من السهولة الخلاص أو تطهير أنفسنا منها. لتبقى هذه الدفاتر جزء لا يتجزأ من مشروعه البصري الأوسع. أنا هنا لا أريد أن أتوسع في قراءة هذه الدفاتر المهمة على كثرتها. فقد كتب عنها الناقد التشكيلي والروائي سعد هادي بشكل تفصيلي. مثلما أشار إليها غيره.