TOP

جريدة المدى > عام > فحوى الرسم وفحوى الكتابة

فحوى الرسم وفحوى الكتابة

نشر في: 29 سبتمبر, 2018: 05:44 م

ياسين طه حافظ

أمامي ثلاثة كتب من سلسلة "عالم الفن" The World of Art ، الأول عن ماتيس والثاني عن ادوارد نمش والثالث عن سيرات. من قراءتي لهذه الكتب، لأرى حياة وفن أولاء الذين اكتسبوا الاحترام. ولأقترب من عوالهم وأفكارهم. في هذه القراءة كنت اواجَه دائماً بشخوص في أحوال صعبة أو في حيرة أو أجد لوحات لحالمين أو مكتئبين. وليس جديداً على الإنسان الاكتئاب بعد الحلم.

بعيداً عما كتب لنا أو قيل لنا ومما علمنا من التاريخ ومن حياتنا والكتب، أحاول أن أقول أنا ما أراه. وقد يكون ما أراه قد ترسخ لي مما رأيت أو قرأت .. المهم، الشخصيات الروائية تختلف عن شخصيات الرسم. الأولى غالبا تصنعها مهارات الكاتب ومخيلته وهي أكثر فعلاً وحرية ولها قدرة التنقل من جو الى آخر ومن حال الى حال. ثم هي أقرب للاعتيادي وأطول استمرارية مع هذه "الاعتيادية" في الحياة. بينما شخصيات في اللوحات الفنية منتخبة وتقدم لنا في مشهد واحد. في حال واحدة وفي فضاء محدد لا يتغير. أيضاً هي تظهر لنا في لحظة جمالية "شعرية" واحدة. هذه اللحظة تمكن منها الفنان فالتقطها وأبقاها أو خلدها.
هنا لا نسمع كلاماً، لا شرحاً، لا تعليقاً أو كشفاً من أحد علينا. نحن نرى الملامح واتجاه وحال العينين ووضع الأيدي والألوان وتوزيع الإضاءة وما يزامنها من فضاء اللوحة: نافذة ، زجاجة نبيذ، صحن فاكهة، ورقة عليها قلم وقد تكون هناك ظلال لآخر أو آخرين أو أن الشخص وحده في البيئة التي ذكرناها. وترد لنا أمثلة في لوحات : رجل يفكر. طفل مريض. سيدة جالسة تحمل هماً أو لاعجاً غمضاً او هو مجرد صمت ولا شيء بعد.
شخصيات الرواية تختلف عن هذا. هي تكشف أكثر من جو وحال واتجاه عاطفة أو تفكير. تتعدد أصوات الشخصية بتعدد المشاهد وخطاباتها موزعة على الصفحات. هي تخرج من حال أو محنة أو مغامرة لتنتقل الى جو ومحنة و هذه مرة ثالثة ورابعة. ومن مجموع هذه تتكامل الشخصية وتخلف انطباعها أو مفهومها لنا.
الحال في اللوحات غير هذه. شخصية اللوحة مستقرة في زمنها ومكانها والحال الإنساني والبيئي اللذين هي فيهما. زمانها ثابت، مكانها ثابت صفاتها الإنسانية ثابتة: حزناً، انتظاراً ، تطلعاً او انزواء. واذا كانت هناك فضيلة بارزة او صفة تمتاز بها وليس بينها شخصيات عابثة او خالية من المعنى. سواء في هذا اللوحات التي تمثل المسيح في أدواره، وبخاصة صلبة ، أو الموديلات أو رسومات الطبيعة وما تخيله الرسامون لأبطال الأساطير والملاحم والقصص الشعبي المتوارث.
الآداب والفنون تسارع تقدمها منذ منتصف القرن التاسع عشر، تقدم فيها أكثر حضور الإنسان، أحزانه، مِحَنهُ ومسراته. وهكذا صارت لكل فنان رسومات تعبر عن أحوال الإنسان ومتاعبه في العيش والحلم والمصير. حتى أمكن أن تكون مزايا الفنان هي مدى تعبير عن الجمال وعما يمر به الإنسان إشفاقا على سواه أو حاجته هو الى مشاركة وتعاطف. في الأقل هو يكشف حالاً. هو والبشرية حوله يحتاجان الى تعبير عما يواجهانه، عما يحتاجان اليه سلامة أو فرحاً أو خلاصاً. وهنا يمكن التفكير بلوحة "الطفل العليل" Sick Child لديفيد منش وهو يتطلع الى الربي وراء النافذة. هي واحدة من اللوحات باعثات الاسف مما يواجهنا ولا نستطيع فعل شيء. كذلك لوحة "العمال يعودون الى بيوتهم" و "عذابات الموت" حيث المحتضر ممدد ومن حوله وقوفاً ينظرون اليه. كذلك "عازف القيثارة" لـ ماتيث و "الكوافير" و "تجلس عارية" nw assis و"الحلم" lerve و"محاثة" ..
أما إذا قلبنا كتاب سيرات فلا يسعنا إلا أن نتأمل لوحات مثل "المتوحد" أو "النائم" Homme Couch و "المتجول ليلاً" و "نساء على الساحل" أو "في اليوم الثاني" The Day After .
وأرى بعد هذه الأمثلة إننا مهما ابتعدت بنا النظريات أو وسعت من اهتماماتنا، يظل الإنسان، بمعى بمعنى نظل نحن في مركز الاهتمام وهو هذا موضوع التفكير الدائم. وسواءٌ تحركنا الى الاخلاقيات أو الى الغرائز، فنحن نواجه متاعب العيش أو ما تخذلنا به البايولوجيا من عوق أو عطل أو عجز أو ما يسببه لنا الحلم والتوق الى الأفضل من وجع وشعور بالأسف أو بالحرمان أو أياً مما ننتهي إليه بسبب رغبتنا الدائمة في تجاوز الحد المرسوم او المألوف الى ما ورائه.
كل هذه تكوّن مضمون الآداب والفنون. وهي أيضاً ترفد الفلسفة بما تحاول أن تجد له حلاً أو تفسيراً. ولعل فكرة الكائن السومري وتصوره لمخلوق ثلثاه إله وثلث إنسان، تعني أن ثمة ما يوقف الإنسان ويحول دون بعض مضامينه. وعذاب الإنسان من ان له روح إله وجسد إنسان. روح تواق وجسد قابل للتلف، فانٍ. فيظل راغباً عطِشاً ويظل في الأخير منكسراً وفي حسرة لشيء ظل لم يتمكن منه. هذا المحتوى هو ذخيرة الأدب وهو ايضاً مضمون الفنون حتى اذا كتبنا عن الطبيعة او رسمنا فصولها، انهاراها وبروقها او ما يوجد أو يقع فيها، نحن إنما نتحدث ونعبر عن انفسنا وعما ينالنا وما تأخذه منا الحياة وأحداثها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram