نوزاد حسن
يبدو أن المنشورين اللذين نشرتهما في "الفيس" سببا انزعاجاً لبعض الاصدقاء بحيث جرى لي مع احدهم حواراً لطيفاً حول أهمية الابداع في أي ظرف لأن الإبداع لا يجب أن يتوقف.وكنت أعرف ما كان يعنيه صديقي جيداً.لكني في الحقيقة وجدت إننا نعاني من مشكلة خطيرة جداً حين نعتقد إن الثقافة لها خصوصيتها الكبيرة,وإنها اشبه بعالم خاص لا بد أن نبنيه ونشيده وندخل إليه ثم نغرق في أمواجه.فللرواية عالمها الشمعي,وللشعر عالمه أيضاً,وللنقد عالمه الخاص به.
وهكذا اتفق الذوق العام على جعل كل عالم بوصفه دنيا من حكمة خالصة فرسانها بعض المثقفين.ولعل من أكثر الأشياء التي استوقفتني وجعلتني أفكر طويلاً بحالة التقسيم الشكلي للفن هو خوف أحد الكتاب من خوضه لتجربة كتابة الرواية لأنه كتب مقالات متنوعة ثم جاء متطفلاً الى الرواية,وكأنه جازف فطرق بابا لا يحق له أن يطرقه.إزاء هذا الموقف عرفت معنى سطوة التقسيم الشكلي الذي أرسيناه في تقاليد قبائل الثقافة.
إذن علينا قبل الحديث عن دلالة ملتقى الرواية أن نتفق على وصف حقيقي يمارس علينا ضغطه اليومي.وقانون هذا الضغط هو، إن للشعر قبيلة وللنثر قبيلة وللسرد قبيلة.ولك أن تقسم هذه القبائل الى ما شئت من مسميات.وفي النهاية سنكون أمام أشخاص يعتقدون إنهم مفصولون عن التراث,ويقومون بدور فريد جداً لم يقم به أحد غيرهم.وهذا ما اسميه "بالذكاء المزيف" وهي حالة استرخاء دائم يبحث عنها الكاتب ويعيش فيها كما يلعب الطفل بألعابه.وعند هذا المستوى نفقد الأصالة لنبقى واقفين في دائرة الذكاء المزيف دون أن نعي حقيقة موقفنا الأخلاقي قبل كل شيء.
أريد في هذا المقال مناقشة قضية قد يراها البعض لا تستحق المناقشة لأنها من بديهيات التذوق وهي هل هناك مشكلة في أن يحضر مجموعة من الكتاب الى ملتقى روائي في مكان يتظاهر أهله منذ مدة احتجاجاً على سوء واقع البصرة الخدمي.اعتقد إن الإجابة على هذا التساؤل سيكون متعدد الإجابات كأية قضية نتناقش حولها.أحد هذه الآراء هي أن الابداع لا يجب أن يتوقف,ولا بد أن يستمر بالتزامن مع أية احتجاجات أو تظاهرات.ليس صعباً أن نفند ونحرق هذه الحجة بسهولة اذا قلنا لصاحبها لو أن ابنتك تعرضت لتسمم بسبب تلوث مياه أغلى مدينة فهل سيكون لملتقى الرواية تأثير يذكر كما تنظر إليه الآن وأنتَ في منطقة الأمان.
ربما نسمع رأياً آخر يقول إن المشاركة تعني إنا نتضامن مع المحتجين وإننا سنقف معهم وفعلاً شاهدنا وقفة عابرة تمثل من قاموا بها في مكان هادئ جداً.
لكن لنسأل ما المشكلة أو ما هو اعتراضي على إقامة ملتقى للرواية في هذا الوقت ثم يحضر إليه مجموعة من الكتّاب.أولاً لا أحب أن اقول إن هناك دين شخصي في رقبة هذا الاتحاد برقبة ذاك الاتحاد,فالرقاب لا تلبس القلائد في كل الأحيان بل تضع أحياناً قلادة رد دين الزيارة في المرات اللاحقة.وإذا كان الأمر يعقد كصفقة بهذه الطريقة فان الرفض غير وارد.ثانياً:لو كان الوردي الكبير موجوداً هل كان سيفرح بدعوته كما فرح بها البعض.؟أظنه كان سيرفض,وسيصرخ بأعلى صوته.انتم متناقضون ومزدوجو الشخصية.ومع الأسف فان هناك من يقول إن علي الوردي بالغ في التقليل من وزننا الأخلاقي وطريقة تصرفنا.
شخصياً أجد إن هذا الملتقى عقد في المكان والزمان الخاطئين.كان مؤتمراً بارداً جداً مع احترامي للحاضرين لكن الصور توضح هذا الشيء.إن قاعة الفندق المكيف جيداً كانت فارغة,وإن الحضور كما شاهدنا كانوا قليلين أيضاً وتناثروا كالغرباء في القاعة.أما المتحدث فلم يكن أحد يصغي إليه فهناك من كان مشغولاً بموبايله,ومن كان غارقاً في عالم مسبحته وما الى ذلك.لذا أنا أقول بصراحة كبيرة إن هذا المؤتمر لن يمر دون أن يأخذ حقه من النقد والتحليل لإظهار طريقة تفكيرنا,وفهمنا لمعنى الكتابة والأهم إدراكنا لمعنى العيش بالمعنى الحقيقي.
إن تساؤلي مشروع جداً حين قلت وكررت أكثر من مرة هل الأدب في العراق صار أفيونا للشعب؟اعتقد أن ما طرحته واقعي جدا فلا معنى أن يتظاهر المحرومون ثم يأتي غطاء ولحاف مؤتمر الرواية ليغطي على حرمان الناس.نعم أنا أتمسك بمحاولة فهمي لما جرى على ضوء التحليل النقدي الذي لا ينخدع باستعراض بعض مصطلحات النقد البنيوي الذي تيبس منذ أن بدأ قبل أكثر من أربعين عاماً.أنا أسعى لمعرفة وفهم ما حدث,وفي الحقيقة لا يمكن أن أبرر هذه المشاركة هكذا كما يفضل البعض أن يفعل.ذلك لأني فرد يعيش وسط ثقافة تسمى الثقافة العراقية واذا لم أحاول ان أفهم روح هذه الثقافة فلن نكون إلا اشخاصاً لا يفكرون بجدية.
لنسأل:لو رسمنا خارطة للثقافة العراقية أين سنضع ملتقى الرواية على هذه الخريطة.لنسأل سؤالاً آخر ترى ما هي العلاقة بين فترة التنوير الادبية وما بعدها بجيل الشعر الحر ثم بالروائيين الستينيين,ثم بعلي الوردي ورموز السياب نزولاً الى بدعة قبائل الأدب التي نعيش زمنها هذه الأيام.أين سنضع ملتقى الرواية في ههذه الخريطة.؟أظن إنه سؤال غامض ومعقد ولا يمكن الإجابة عنه الا بعد محاولتنا أن نكون جديين اكثر.
لكن لنتجاوز الإجابة الى شيء أهم يتعلق بعملية الوعي ذاتها.لا أشك في أن كل المشاركين يفكرون بعقل نظيف جداً احسدهم عليه.عقل واقعي مرن يعرف كيف يفصل موت متظاهر مع حديث عن السرد في قاعة فندق.لا أرجو أن أكون ساخراً أو ناقداً قاسياً,واعترف إني سأحاول محو هذا الضعف الذي أشعر بمرارته في فمي.ما يهمني الآن هو سيطرة نوع قاهر من عقل عراقي النزعة لو صح القول على كل تصرفاتنا.هذا العقل صنع وعينا تحت نار تصل حد الإحمرار.الطرق والحرارة أنتجا وعياً مرناً أفقي الحركة يتطابق مع حركة الواقع.كيف يعمل الوعي عندنا.؟إنه يلتقط مشهد التظاهرات يصوّره ويطبعه على شريط اسميه شريط الوعي ثم تأتي صورة أخرى هي جلسة في فندق والاستماع لحديث عن السرد.يقوم الوعي بطبع هذه اللقطة الى جوار لقطة التظاهر لكن دون أن تمتزج اللقطتان لقطة التظاهر ولقطة حديث السرد.ثم تأتي لقطات أخر وأخر عندها يقوم العقل بأخطر عملية مونتاج في تاريخه حين يقطع لقطة التظاهرات ويحولها الى مشهد جانبي ديكوري عابر.هذا الوعي الذي نعيش فيه هو وعي خطير لأنه خاضع لعمليات تزييف كثيرة.ولو شئنا ان نقف في وجه الحقيقة فعلينا أن نبحث عن حالة فراغ الوعي التي كان البريكان يمرننا عليها.لم نصل بعد الى حالة فراغ الوعي لأن فراغ وعينا يعني افلاتنا من كل المظاهر الشكلية المقيتة لأنها لن تؤثر في وعي فقد جذور زيفه التي تسيطر عليه.إذن حالة الوعي وطبيعة هذا الوعي هي ما يجعلني أفهم لماذا يرفض فلان هذا الشيء ولماذا يقبله شخص آخر.القضية توجد هناك في أعماق الذات البشرية,وكل تفسير أو شرح خارجي لن يكون مقنعاً.في الوعي تتركز كل أخطائنا وشهواتنا وحبنا المدفون للتميز الظاهري.وإذا لم نفرغ الوعي من الأشياء الضارة التي تملأه فلن نفهم معنى ملتقى الرواية الرواية ولا أي حدث آخر.