طالب عبد العزيز
يحيي العراقيون الفارون من بلادهم ليل اسطنبول باغانٍ تتناغم مع الغربة التي في نفوسهم، فهم يرقصون على أنغام أغانٍ عراقية مستلة من ماضيهم الذي كان جميلاً، مطمئناً ذات يوم. نغم من الجنوب ومثله من الشمال وآخر برقصة الچوبي، في محاولة لتأبيد لحظة كانت بوقع ما . تركوا مدنهم التي لم تعد تستوطن، وجاءوا، مدنهم التي مازالت تطردهم الى حيث اللا أمل في الرجوع اليها.
في الرحلة الممتعة التي كانت على ظهر العبّارة التي اقلتنا من وسط مدينة إسطنبول الى جزيرة الأميرات بتركيا، في المركب الذي كان معظم سياحه من العراقيين، الذين جاءوا من بغداد والبصرة والمدن الأخرى، تحلق العراقيون حول أغنية تتحدث عن الحرب، مارشات وأصوات وطبول، كلمات من ريف الوحشة جمعتها فرقة طالت بأعضائها الغربة أيضاً،وتشتت بهم السبل فجاء هذا هارباً من داعش وذاك جاءها ناجياً من بندقية مليشيا ظلت تلاحقه وآخر اضطرته لقمة العيش فطلب فيها ومثله جاء باحثاً عن حريته في المدن البحرية النائية وغيرها، هؤلاء، كلهم وجدوا وحدتهم في أغنية بائسة، تتحدث عن الذين مازالت الاحزاب تزّيف بطولاتهم، وتسفّه البنادق أحلامهم، عبر رصاصها، الذي ظل يطيش هنا وهناك، منذ خمسة عشر عاماً. أعضاء فرقة الموسيقى غرباء والذين رقصوا بجنونهم غرباء أيضاً، هذا وطن يلتقي غرباؤه على ظهر سفينة تبحر تحت سماء آمنة أبداً.
موجع أن تتراجع فكرة الأوطان الى حمكة فاسدة، تلاحقنا في الغربة، الى جسد خرّب يتمظهر في دبكة مرة، وفي أغنية عن الحرب مرة أخرى، وعلى طهر سفين لا احد يعلم وجهته مرّات ومرّات ، هذا البحر كانت رماله وسادة لأكثر أجسادهم طهراً وغربة.
منذ سنوات والعراقيون المطرودون من بغداد والرمادي والموصل والبصرة يستبدلون تراب مدنهم بظهر سفينة، ظلت تبحر غادية ورائحة في بحار كثيرة، بحار تصلهم بشرق وغرب الأرض، لكنهم، ومن بحر مرمرة، الذي بين اسطنبول ذات الشقين، راحوا يبصرون قادم أيامهم في موج أزرق بعيد. هؤلاء الذين يدخلون المدن الغريبة من كلمة في أغنية، من جرس في حنجرة تنوح، من خفقة في جنح طائر يعلم الجهات الأربع كلها فلا يدلّهم.
موجع أن يكون الرقص تعبيراً عن وطن يطردك. إذ ليس الوطن ما تدخره بين قدميك في رقصة على سفينة ، فلا تسميه حلماً، هذا الذي يخذلك مسكوباً من عينين داميتين، أبداً، لن يكون الوطن ما تفقده من رؤاك على موجة لاتصل أبداً.
فلا تجتر وطناً بعيد ترابه عن قدمك، لا تركب ظهر موجة لا تسمّي النخل لك، ولا تجاهر بالشمس في البلاد الباردة، فكن الفجيعة التي بين دمعك ودمك.