زينب المشاط
أجلس في إحدى الندوات الثقافية الخاصة بتوقيع كتابٍ لأحد الكُتّاب الشباب، كان الكتاب بين يدي منذ أكثر من أسبوع وقد قرأتهُ ولم أجد فيه ما يجذبني أو يقودني الى الاستمرار بالقراءة، في الواقع الكتاب غير مؤهل للنشر، وكنت بين سطر وأخر وصفحة وأخرى اشتم دار النشر تلك التي ساعدت في بثّ هذا الوباء على المجتمع الثقافي، كُنت قد حضرت الندوة فضولاً لمعرفة ما ستتضمنه من مداخلات نقدية وثقافية، كان مُقدم الجلسة يُغالي جداً في امتداحه للكاتب، الذي تمثلّ دائماً بتجسيد شتى الأدوار الأدبية، وتطرقه الى جميع المجالات المختصة في الكتابة، فأحياناً نجده صحفياً وأخرى روائياً وأحياناً يظهر للإعلام على إنه شاعر، ونحن ما لنا من حيلة سوى أن نستمع لتلك المجاملات، ولكن ما صدمني هو امتداح أحد النقاد الكبار والمعروفين لنص هذا الكاتب....
دفعني ذلك الى مغادرة الجلسة، فلن انتظر المزيد لأنه ببساطة صار معروفاً وواضحاً بالنسبة لي، لم استغرب من أن يظهر شخص الى الساحة الثقافية ويظهر كل يوم تحت عباءة أدبية مختلفة ومجال مختلف ولكن ما صدمني أن يصل الأمر بأن يُجامل هذا الشخص من قِبل ناقد معروف، فتساءلت الى اين ستقودنا تلك المجاملات الأدبية خاصة من قبل النُقاد الذين يتوجب عليهم أن يكونوا أكثر أمانة فيما يطرحوه ويقولوه، لأن كلماتهم مأخوذ بها ومعمول بها...
يبدو أن هذه الظاهرة ليست بجديدة على الأوساط الثقافية والنقدية، منذ زمن حيث يذكر الناقد والباحث ناجح المعموري إن "الحياة الثقافية سابقاً وحالياً تنطوي على قضية المجاملة وغياب العقلانية بالتعامل، وهذه ظاهرة تتحدث عن معلومات أنا عايشتها ولكني لم أذهب بذكر الاسماء لأنها معروفة في الوسط الثقافي." ويذكر المعموري عدة نقاط تخص هذه الظاهرة "أولاً شيوع هذه الظاهرة ناتج عن سبب جوهري وهو غياب البنية التحتية التي تلعب دوراً في انتاج البناء الفوقي وغياب وضعف تقاليد العمل الثقافية وغياب الحضور النظري للجانب النقدي."
وأشار المعموري الى ثلاثة شواهد من خلال حديثه كاستدلالات عمّا يمر به الوسط من تهالك وضعف، ويقول "سأشير الى شواهد أن أحد الأصدقاء الشباب تحدث في جلسة نقدية عن رواية طويلة وهو لم يستطع إكمالها وهذه ظاهرة مخيفة، أما الظاهرة الأخرى فقد حصلت في اتحاد الأدباء في بغداد وهي إن أحد النقاد الكبار شارك في نقد إحدى الروايات وتحدث كثيراً واستغرق وقتاً طويلاً ومن خلال حديثه توصلت الى قناعة تأكدت لي من تسريبات داخل الوسط الثقافي إن الناقد لم يطلع على الرواية ولم يقرأ منها صفحة واحدة ، وهذا دفعني الى محاولة فيها مداراة وذكاء أن أنبه الناقد للإشكال الذي حصل، فالتفت له وقلت له ان ما قدمته من قراءة نقدية كان جيداً، فقال لي شكرا، ثم التفت له مرة أخرى وأخبرته أن مقاربته كانت الأفضل فشكرني مرة أخرى، وفي مداخلة لأحد كبار النقاد في وسطنا عن إحدى الروايات التي صدرت حديثاً قال الناقد استلمت إشعاراً بوجود الاحتفالية من الروائي وتصفحت الرواية وتشكلت لي ملاحظات ليست للكتابة ولكن للحديث عنها، في الحقيقة لا يمكن لأي عقلية ثقافية ونقدية أن تتصفح وتدلي بدلوها حول كتاب ما وهذا يعني إن هذا الناقد قد أطلع على ما هو منشور في مواقع التواصل الاجتماعي مُضيفاً اياه في حديثه عن الكتاب، واعتقد إن العنوان الأساس لهذا الموضوع مهم ويتطلع على ما هو كبير وهي ظاهرة عامة لم تبدأ الآن بل كانت سائدة منذ زمن."
ويبدو أن الظواهر الثقافية تستمد واقعها من الظواهر الاجتماعية المحيطة بنا، يذكر الناقد علي حسن الفواز إن "من الصعب جداً عزل الظاهرة الثقافية عن الظاهرة الاجتماعية، والتي يدخل فيها الاحتفاء كسياق للتعبير عن تلك الظاهرة، لكن هذا لايعني تجريد الجلسات الاحتفائية- على وفق توصيف الظاهرة- من جانبها النقدي، أو حتى من إضاءة بعض الجوانب الثقافية، لاسيما وأن الاحتفاء بصدور كتاب جديد يعني التعريف بهذا الكتاب من جانب، وتعالق هذا الإصدار مع تاريخ صاحب الكتاب جانب آخر."
ويجد الفواز إن "القسر في توصيف هذه الظاهرة بمسميات معينة لايمثل حقيقتها، بل قد تكون حافزاً لدفع القارىء لقراءة هذا الكتاب أو ذاك، أو قد تكون دعوة لمزيد من التعرّف على التجارب الثقافية، ورغم أهمية هذه الجلسات في توسيع مديات المشاركة الثقافية، فإن وجود بعض المظاهر السلبية أمرٌ وارد، وسبب ذلك يعود الى طبيعة بعض المشاركين في هذه الفعاليات الثقافية، فبعضهم يتحدث دون معرفة بالكتاب والكاتب، وبعضهم لايملك الأهلية المعرفية ولا النقدية للحديث عمّايتعلق بموضوعات تخصّ موضوع الكتاب، ولا حتى حيازة المعرفة النقدية التي تعزز ماهو علمي ومعرفي ومنهجي في المقاربة النقدية، حتى وإن كان يشوبها الطابع الاحتفائي."
ويؤكد الفواز إن "الاحتفاء الثقافي هي ظاهرة انسانية، وموجودة في عديد المحافل الثقافية، لأن هذه الفضاءات غير مخصصة أصلاً لاجراءات البحث النقدي المهني، أو التكليف الذي يرتبط ببرنامج الاحتفاء، أو الحديث عن هذه التجربة أو ذاك الكتاب، إذ تكون مثل هذه الفعاليات حاضرة في الندوات والمؤتمرات والتي يتم تحديد المشاركين فيها، وعلى وفق التخصص النقدي والمهني، ولا اظن أن مثل هكذا فعاليات ستكون خاضعة للمجاملة على حساب القيمة العلمية للكتاب، أو لتجربة الكاتب."
من المفترض أن لا يكون في النقد الأدبي عموماً والأكاديمي منه تحديداً أي مجال للمسايرة الدعائية التي تجامل العمل الإبداعي وتنحاز الى صاحبه بمحبة لا تخلو من التهليل والترويج والتسويقية، تذكر الناقدة د. نادية هناوي إن " العمل الابداعي وايّا كان مكتوباً أو مسموعاً أو مرئياً يجب أن يخلو من المسايرة وذلك بسبب الاحتكام البراغماتي الذي به تصبح العملية النقدية موصوفة بأنها موضوعية ومرتكنة الى واحدة من المنهجيات التي لا يتآتى العمل بها إلا عن منطق فكري وبمقايسات بنائية ومواصفات اجرائية وعلى وفق معايير دوغمائية لا تسمح بمرور المحاباة قيد أنملةغير مستسلمة للمجاملات اطلاقاً."
إن البعد عن المجاملة يُبرئ ساحة النقد الادبي من مظاهر الاستجمال ويجعله مناهضاً للاهواء والتكلف فهو ينظر للامزجة ويعادي الانحياز وما فيه من التملق والنفاق، ومن هنا تذكر هناوي " إنه لا يمكن بأي حال من الاحوال أن نسمِي المجاملة بأنها نقدية، كونها تقع خارج نطاق النقد أصلاً، وبالامكان أن نصف المجاملة بأنها اخوانيات واستملاحات واستحسانات واحتفاءات أو تهانٍ، والقصد منها عموماً الاشادة المحببة بهذا الكتاب أو ذلك أو التحشيد لهذه الشخصية أو تلك، او الاعتداد الفردي بتذوق قصيدة بعينها أو التباهي تعريفاً بعمل روائي أو قصصي."
إن المجاملة الأدبية عمل يصدر من مبدع الى مبدع مشابه له ونادراً ما يمارسه ناقد بحق مبدع، وتذكر هناوي" في حال قيام ناقد بمجاملة مبدع فعند إذن سيكون هذا الناقد قد تخلى عن اداء وظيفته النقدية، مُخلّاً بأهم بند من بنود النقد الأدبي إلا وهو البعد عن المجاملة وتجاهل الاخوانيات وبهذا سيضمن الناقد لعمله الاستقامة العلمية والتروي الموضوعي تمحيصاً وتشخيصاً ، كاشفاً بدقة عن مستويات العمل الابداعي وعلاقاته وأنساقه، والمتحصل من وراء هذا كله نتائج منطقية توسم بالحصافة والرصانة، ليس فيها أدنى احتمال للمهادنة ولا سبيل منها الى المسايرة واللاموضوعية."