د. فالح الحمراني
إن جنكيز أيتماتوف مثل أي كاتب عظيم، خلق كوناً كاملاً من الصور الفنية والمواضيع والأفكار، تميزت بوجهة نظر ذات بعد أيديولوجي وحتى تنبؤي حاد.
إن أعماله الفنية عضوياً، ذات قوة تعبيرية جبارة، بثت فيها رؤية الكاتب ـ المفكر للعالم الحياة، وفكره المتسائل والباحث، المحذر للنوع البشري من الخيارات السلبية والقاتلة، وطرح خيارات للتطور تقدم طرق خلاص جديدة. إن علامات إبداعه الأصيلة والعميقة التي تؤثر بصورة فعلية على وعي قرائه، تمثل الصورة الرمزية والاكتشافات الواسعة لأيتماتوف، التي دخلت في زمننا بالتداول في حياتنا اليومية.
دعونا نتذكر من روايات الكاتب صور "المانكورتي" و"الجينات الوراثية الفوضوية". إن الكاتب أدخل الأحداث الأولى والفصول الأولى والصور الأولى التي لم تعرفها أبداً الثقافية العالمية. فما روعة "فيلوفي الراهب ـ اللاعائد" الفضائي وانتحاره الكوني.
إن مغني الجبال والسهوب أيتماتوف، اضفى على العلاقة بالطبيعة، من صميم قلبه رؤية داخلية وعضوية خاصة.
إن مجال الوعي او تكويرة نو، التي تخترق بوضوح خاص، روايات أيتماتوف الأخيرة، غير ممكنة التصور من دون وعي الإنسان بجذور تطوره، ومن دون الشعور بتتابعية الصلة والقرابة مختومة في أقدم الطوطميات والمعتقدات الأسطورية والطقوس القديمة. وليس بمحض الصدفة أن تكون حيوانات أيتماتوف الوحشية الشهيرة ـ إحدى ثوابت إبداعه وإحدى النقاط المرجعية القيمة له. إن أهم التغيرات في الوجود هي واحدة من الشِداد، التي تحمل تصميم عالمه الفني. إن روايات وقصص أيتماتوف تفوح بروح العلاقات القديمة بالحيوانات.
لنتذكر المرأة ـ السمكة، سلف والدة قبلية نيخفيف التي تمتهن الصيد في رواية" الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر". أو الظبية ـ الأمّ ذات القرون من رواية" السفينة البيضاء. حينما يتم التخلي عن الأساطير القديمة تطرح جانباً مشاعر الامتنان لأولئك الأسلاف البعيدين الذين جلبوا بتضحياتهم للوجود إكليلاً عقلانياً، حينها يظهر الأنسان ذو البعد الواحد، الوغد المتغطرس والمتبجح الذي لا يتذكر روابط القرابة. إن علاقة الصلة مزدوجة، فهي ترتبط طبيعياً بالآباء والأجداد، والأبعد رأسيا بأدنى مخلوق.
إن دراسة نثر أيتماتوف الناضج تتيح لنا الحديث عن أنه ينطوي على مادة أسطورية وفولكلورية غنية، عالجها الكاتب وراجعها وفق رؤيته. هنا يمكن للمرء إن يميز وحدات فلكلورية / أسطورية نافذة، من الحافز والباعث المنفرد إلى مجموعة الحوافز والبواعث الراسخة وبُنى مضامين كاملة تحولت في إطار توجهات الكاتب وإبداعه. في الوقت نفسه تشكل الحوافز والبواعث سواء المنفردة أو بُنيوية الخط العام للفكرة الرئيسية. إن الأسطورة في أعمال أيتماتوف هي وسيلة للتعبير عن موقفه الأخلاقي ـ الفلسفي من العصر، وهي محاولة للنظر الى مشاكل البشرية من خلال منظور الحكمة التي مر على ظهورها قرون. إن مضمون الأسطورة، وتنوعها تتيح لنا استعمالها كمفتاح فك شفرة يخلق مضموناً متعدد الأوجه والطبقات.
إن إبداع ايتماتوف يصب في اتجاه أدبي كامل ظهر في ستينيات القرن العشرين، وسُمي اصطلاحاً الاتجاه الميثلوجي ( الأسطوري).
إن خصوصية أعمال كتاب هذا الاتجاه، كتاب النثر الريفي، أصبح السعي نحو استكشاف السبب الأول والجذري للكارثة التي تهدد حياة الناس ومبادئها الأساسية. وبمساعدة الأسطورة والخرافات والمأثورات الشعبية يدخلون في جدل مع العقلانية والبرجماتية ( النفعية) للحضارة المعاصرة. وظهر أن في الفلكور والأساطير، ثمة معايير أخلاقية سجلت ووضعت بصورة مجازية، على مدى قرون. وفي هذا تم اكتشاف نماذج النزاعات في المستقبل التي تندلع نتيجة لانتهاك هذه المعايير التي كان من الممكن أن تكون بمثابة تحذير للمعاصرين والأحفاد. وقال جنكيز أيتماتوف بهذه المناسبة:" لقد اتضح منذ زمن قديم إن الإنسان يحاول حماية الطبيعة من نفسه، وكيف إنه يعكف على هذه المشكلة الأبدية، للحفاظ على ثروة وجمال العالم المحيط". لقد ظهر إن القضية حيوية حتى أن الناس في العالم القديم جسدوها في شكل ماسي وتراجيديات، واعتبروا ان من الضروري ان يمارسوا النقد الذاتي لموقفهم من الطبيعة، وعبروا عن تأنيب الضمير.
إن التناص الأسطوري والأسطوري/ السياسي يهيمن على قصص مثل " السفينة البيضاء" و" الغرانيق المبكرة" والكلب الأبلق...". ان الصورة الفنية في هذه الأعمال هي صورة الطفل والعجوز. احدهما لم ينفصل تماما بعد عن الطبيعة البكر، والثاني يقترب إلى الخطوط التي تفصل الوجود الاجتماعي عن الفكر الطبيعي الأنطولوجي. إن تحول الرمز الأسطوري تدريجيا يتسم بالانتقال من الطبيعي الى مستوى الإدراك العاكس للعالم.
تنشأ في عالم أيتماتوف الفني موضوعة الابن الضال بصورة راسخة، التي يعممها الكاتب إلى حدود رمز الأنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله. ليس لدى ايتماتوف إحالات مباشرة الى القصص التوراتية ولكن عقدة الابن الضال مع مكوناتها الرئيسية حاضرة في مسار الكاتب الإبداعي. إن فلسفة الأخلاق لنثر ايتماتوف الناضج من المضمون الايقولوجي يقترب اكثر من موضوعة علم الأخرويات. حينما يهدد الدمار ليس فقط الطبيعة الحية، وإنما أيضا الوجود البشري. وتسود في الروايات موضوعة مثل نهاية العالم او موضوعة التدمير الذاتي للنوع. على سبيل المثال رفض اجنةـ كاساندرا الظهور إلى الدنيا، والانتحار الجماعي للحيتان في رواية " ماركة كاساندرا". وولدت هذه الموضوعات في عالم أيتماتوف الفني، بالدرجة الأولى من أساس الفكر الوجودي، وحالة العالم المعاصر، وكوارث العصر.
إن رواية " ماركة كاساندرا" " هرطقة القرن العشرين"، قريبة من أعمال ما بعد الحداثة في أواخر القرن العشرين، إن موضوع بحث ايتماتوف في هذه الرواية يغدو العالم المضطرب الذي يعاني من الخلل وفقدان النظام. وليس من قبيل الصدفة إن الرواية تنتقل إلى الغرب، إلى أميركا ـ رمز التطور المتسارع للحضارة، حيث لاوجود للجذور القومية الروحية. إن حالة الفوضى تسيطر على العالم باسره، ويسود هنا الوعي بعبث الحياة، الذي ينحصر في الاعتقاد بان الأنسان فقد السيطرة على الوجود. ولكن لا يجوز إدراجه من دون او شرط في أدب ما بعد الحداثة، نظرا لأنه لم يجر تدمير الأسطورة، ولا تغدو وسيلة في لعبة الكريات الزجاجية. على بل على العكس من ذلك، إن الأسطورة تنظم السرد.
تكمن في أساس فكرة الكاتب الفنية مأساة الخيار الشخصي، مأساة قدر الإنسان، وهلم جرا. ويتغلب ايتماتوف خلال عمله على العدمية. إن رواية " ماركة كاسندارا" ـ هي مصير إشاعة الإنساني في المجتمع المعاصر الممزق في فضاء افتراضي. وعلى الرغم من وفاة صاحب نظرية جينات ـ كاساندرا، يؤكد الكاتب على إن لا يجوز التوقف عن التفكير. ان اكتشاف فليوفي يشهد على بداية حقبة جديدة في تطور البشرية.
وكان هدف فن أيتماتوف دائماً إيقاظ في روح الإنسان الجمال والخير والحب لكل ما يحيط به. والأسطورة بالنسبة له هي وسيلة لفهم العالم غير المستقر، بل انه المطلق الذي يمكن أن يكون معيارا لتقييم الحقيقة والكذب في تيار الواقع التاريخي. ان أسطورة أيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
كتب ميخائيل باختين إن تحضير أعمال الأدب العظيمة يجري على مدى قرون، وفي حقبة إبداعها يجري فقط قطف الثمار اليانعة لعملية نضج طويلة ومعقدة. إن محاولة فهم وتأويل العمل الفني بالاعتماد وحسب على ظروف عصرها وفقط بالاعتماد على ظروف الزمن القريب، لن تجعلنا نخترق عمق دلالاتها، لذلك دعونا نقول إن الأسطورة في إبداع أيتماتوف هي مرحلة طبيعية وعضوية لفهم الإنسان لمصيره ومكانه في التاريخ من خلال منظور تجربة القرون التي اُدرجت في الأساطير.