TOP

جريدة المدى > عام > وأنا أنظر للإلياذة

وأنا أنظر للإلياذة

نشر في: 6 أكتوبر, 2018: 07:21 م

ياسين طه حافظ

طبعة جديدة من الإلياذة وصلتني هديةً وافرحتني كأني لم أرها ولم أقرأها من قبل. أخذني تأملها الى قولهم "حضارة الاغريق لونها ازرق". ازرق لا من السماء ولكن من البحر. فبلاد الاغريق جزيرة ومدائن على حد الماء. والملاحظ ان الارضي شغلهم عن السماوي الذي لا يُذكر الا بما يُخشى.

ولأنها مدائن على الساحل فهي مأتى ومخرج تجارة ووجوه غرباء وسفن وقصص بحار وأنواء وناس يغتربون او يغيبون تجارةً او خوفاً. الهرب من الموت كثير. والتجارة هنا ليست بضائع واثمان. التجارة بالنسبة للأدب وهواته تعتمد المعرفي، القيمي والجمالي. الجمالي الذي يدفع من أجله الثمن أو يُضحَّى من أجله والذي يتبعونه في البحر بالرغم منهم او برضا.
ولأنها مدن تريد ان تكون دولاً أو ولايات، فمسعى الفرد فيها ليكون مهما، هو بعض من ذلك. لكل مدينة سد وسور ومعبد ولكل إله من آلهتها ضروب فعل وقوة ولكل بطل امتياز يعرف به وتأسيسٌ يؤكد فرديته. ذلك ما كان لكل وجه من وجوه مالكي المعرفة او الحكمة او مالكي المهارات. والغريب، في كل ما قرأناه عنهم ان مثلما لكل فرد ما يؤكد فرديته، له ايضا ما يؤكد جماعيته لتكتمل البطولة وليتضح الامتياز. فنحن امام عشاق بحار، شعراء فلاسفة و فلاسفة رياضيون لهم حديث مع الكواكب. ومن أولاء جميعاً هوية المدينة التي هم فيها.
وبين تأمل الكون وقتال العدو القادم، الاساطير تتجسد على المسرح تستحضر الاسلاف. وكان الشارع يتوسل بوسيط رباني ليأتيه بالنار او بالمعنى. وبين كل أولاء عاشقات عظيمات يرسمن في جمالهن النادر وحضورهن في حياة الابطال والشعراء والالهة، ممرات الابداع وممرات الحضارة ونهايات القصص.
لكن الحياة ليست بالمستقر، الثابت، المحمي بالازرق. الحياة في القلق. القلق يسبق كل منجز والقلق بعد كل منجز. والمنجز مصدر قلق سيلتقي بما يؤكده او يوسعه او يمنحه قوة تحرف الطريق الى هدف ثان: فلسفة او ميناء او معبد او ملحمة وقد تلغي كل هذه امرأة في الطريق ! وكم حدث ان غيرت اسماء معابد باسماء آلهة اخرى وقرابين أخرى ويموت من اجل ذلك ابطال او تحترق مدن. ذلك بعض ما يتقاضاه التاريخ ليترك الاحداث تمر.
في اجواء مثل هذه تتضح عظمة الارواح. واحدٌ يفقأ عينيه. آخر يلتفت في الظلمات الى حبيبته ويكسر وصايا السلامة. ثالث يخطف من احبها وتحترق بسبب الحب، كما يقولون، طروادة!
نعم للاقتصاد لغة اخرى وتفسير. والاقتصاد كان يشعل او يغذي المعارك. لكن الادب لا يرى لغة الاقتصاد مقنعة. فهو يقول انها بعيدة عن الانسان ولا تملك كل المعنى ..
لم تكن الملاحم قصصاً تروى ولا اخبار . كانت فضاءات لانبثاق الاشراق، لسطوع اللحظات الأبهى وفرصاً للنديّة بين الانسان والآلهة. والاحداث كانت صواعق كشف للانتباه فلا غرابة من الانتقال المفاجئ من حب الى حرب، من فن الى فن، من الوصايا الى سرقة النار، اعني التمرد في الارض.
الغنائية الفردية، صوت الانسان في الكون الشاسع، احتاجت الى صحبة الجوقة. من بعد صارت حواراً ثم كفئاً تراجيدياً ليُرى ويُروى وتشغلنا حتى اليوم. وهنا، في التراجيدي، انفتح الافق على التأويل. ونحن اليوم منشغلون بتفسيرها وبإعادة القراءة وإعادة التفسير. اتسع بها الادب وصار الابطال رموزاً!
في العنفوان الحضاري المبكر، الشعراء يقولون نحن فلاسفة. والفلاسفة يقولون نحن شعراء والشاعر الفيلسوف يركن مجدَيْه في قلبه وفي جسده البطولي يحرف السفين الى حيث يريد، حباً او مجداً !
في كل هذا، في صوره الباهرة والمدمِّرة ، ما هدأت الذات. ما كفّت صراعاتها لخلق المعنى، لإحضار المسوِّغ، للإجابة عن "لماذا" أو "كيف" .
فلأسجل هذه الملاحظة قبل أن أكمل : هل انتبه القارئ، السامع، الباحث في الآثار كتباً او حجارة، الى الاشتراك في العظمة: الملحمة البطولة والمعبد؟ كانت الملحمة عالماً آخر موازياً لعالمنا اليومي. كانت البطولات الخارقة: عشقاً، قتالاً، صراعاً مع الموج، هي مدارات نهاراتهم وهي مصابيح الليل تسهر عليها الجماعات. كان المعبد آية في العمارة وفضاءً تملؤه الموسيقى وعلى عتباته القرابين. وفي كل احوالهم قصص الحب لاتغيب!
المعبد له صلات بعيدة، كما القيثارات، كما البحث عن حل لدفع الشر او الخلاص من المصير. وكما القيثارة ما تزال ببهائها وقد دفنت دهوراً تحت الحجارة والانقاض، كلكامش البعيد قبلهم بدأ تاريخ البطولات الكونية. أول متمرد كبير على المعبد والآلهة والمصير وحتى رأى الحكمة البشرية مجسدة ناطقة لتعيده من التيه المطلق الى بيته.
هكذا أنا ما أزال اتحدث عن حضارة الاغريق، ايضا التحدث عن الشعر في تحولاته، ايضا عن الانسان في محاولاته كلها، ليكون هو إلهاً ولتجد صراعات البشرية معنى. غريبة مختلفة انواع المجد : واحد ليقهر دولة. ثان ليؤسس دنيا فاضلة. ثالث ليرضي الله بما ينحر من قرابين. رابع قال قبل ان يموت : "يا ليتني اقدر الآن على مسك يد الحبيبة" ، هذا كل شيء بالنسبة له. من هو الحكيم؟
الغريب ان صاحب القول الاخير شاعر يقال عنه هو الاكثر فظاظة ورداءة لفظ بين من حوله. ليس هذا هو المهم. المهم كيف نجيب عن السؤال: من هو الاعظم بين من ذكرناهم والاكثر حكمة؟ ام أن الجميع كانت لهم تساؤلاتهم وكلٌ كان يجد سبباً للرؤية او سبباً للوصول، ام ان الاخير هو المعنى ولا شيء بعد؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram