اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: مودلياني الدافئ في شتاء لندن

البرج العاجي: مودلياني الدافئ في شتاء لندن

نشر في: 7 أكتوبر, 2018: 07:02 م

 فوزي كريم

معارض الفن لم تتكاسل في موسم شتاء لندن، ولكني تكاسلت عن ملاحقتها تحاشياً للبرد. معرض الفنان الإيطالي مودلياني Modigliani (1884 ـــ 1920) في Tate Modern كان قد افتُتح منذ فترة، ولكني عجزت عن حضور الافتتاح. أول البارحة تحينت فرصة هدأة البرد وخرجت إليه. أخذني "الأندرﮔراوند" إلى كاتدرائية St. Paul في قلب لندن، ومن هناك مشيتُ درباً لا يقل جمالاً وسكينة عن لوحة مودلياني التي أعرف، يقطع حديقة الكاتدرائية التي تتعالى على يمينك بفخامة تليق بلندن، ثم يوصلك إلى نهر "التّيْمس"، يقطعه بجسر صغير خاص بالمشاة، وكأنه أُعد خصيصاً لمتحف Tate Modern، لأنك ما أن تنتهي منه حتى تواجهك عمارة المتحف، بمدخنتها الشامخة، تمتد واجهتها على ضفة النهر لمئتي متر. كانت محطة مولدات كهرباء منذ 1947، ثم هُجرت في 1981، وأُعيدت صياغتها كمتحف للفن في عام 2000.
لندن تحتفي بـ "مودلياني" على هذه الرحابة لأول مرة. 11 قاعة بمئة لوحة، ترعى تطور الفنان، منذ مجيئه من مدينته Livorno الإيطالية إلى باريس عام 1906، حتى وفاته المبكرة عام 1920. في الوهلة الأولى من المشاهدة أعجب من صفتين: اعتماده فن البورتريت في كل أعماله، والنساء العاريات ضمناً، ثم صفة التكرار في أسلوب التناول، تحسه حين تنظر للقاعات على مبعدة. حتى صارت مُحاكاة لوحته يسيرة على يد مقلدي اللوحات. ولكن بصرك أمام كل لوحة يأخذك إلى مدى آخر لا مكانة للتكرار فيه. ثمة سكينة في اللوحة، لا تتناسب مع فوضى حياته التراجيدية، جسداً وروحاً. فقد جاء باريس ومرض السل كامن في جسده منذ صباه، وسط هيمنة كاثوليكية لا تنظر إلى اليهودي بعين الرضا، مع مشاعر المهاجر الإيطالي المشرد.
الكاتب الفرنسي جان كوكتو، وله بورتريت بين اللوحات، يقول: "إن البورتريت لا يُشبهني، ولكنه يشبه مودلياني." ولعله يعني العناصر البارزة التي تمثله والتي يعتمدها مودلياني في لوحته: الوجوه الطويلة، البيضوية، والعيون التي بشكل اللوز، واللون الذي لا يغادر الوردي، الأزرق والكستنائي، والرقاب الأنبوبية المائلة أو المستقيمة، والأطراف المنحنية. عناصر شكلية توحي بمشاعر أقرب إلى الأسى.
على أن لوحته تنحو منحى اختزالياً، فهو يعتمد الخط المطواع في رسم الهيئة إلى جانب تدرج الألوان، ولا يشغل نفسه بالتفاصيل. يقترح النقاد تأثره بسيزان في الميزة الأولى وتأثره ببيكاسو، الذي كان صديقاً في باريس، في الثانية. ولعل حبه للنحت، مع قلة أعماله النحتية التي تحتل قاعة واحدة، يُسهم في ميله إلى الاختزال في لوحته التشكيلية.
جاء مودلياني من عائلة يهودية مهاجرة في الأصل إلى إيطاليا، انتفع منذ طفولته من أمه المولعة بالأدب والفن والموسيقى. تعرف على أساليب الفنانين الكلاسيكيين في متاحف فلورنسا. قرأ نيتشة ولوتريامون وتأثر بهما. وحين جاء باريس تعرف على فنانيها آنذاك وعلى أساليبهم المختلفة. إلى أن حقق أسلوبه المحبب الخاص الذي نعرفه به اليوم. وأقول المحبب لأنه، وهو يعيش وسط التيارات الطليعية المتطرفة في نزعتها التعبيرية، لم يكن مثل النمساوي Egon Schiele في نسائه العاريات، ولا مثل بيكاسو في تحطيم المعايير السائدة. وبالرغم من هذا، حين أقام معرضه الشخصي الوحيد عم 1917، هاجمته الشرطة بسبب عارياته اللواتي تجرأ قليلاً في الكشف الحيي عن شيء من محرماتهن.
آخر سنة من الحرب العالمية الأولى خرج مودلياني، مع من خرج، إلى الجنوب الفرنسي، ثم عاد عند انتهائها. كانت معه "جيني" التي استقر على العلاقة معها، والتي لم توافق عائلتها على زواجهما. تعرف عليها وهي في عمر 19، وكانت مُلهمة لوحات عديدة. أنجبت منه طفلة، وفي باريس حملت منه بوليد آخر. ولكن مودلياني كان يلفظ آخر أنفاسه بفعل اشتداد مرض السل. توفي بين يديها في 24 كانون الثاني، وفي اليوم الثاني ألقت بنفسها وبحملها من بيت أهلها في الطابق الخامس. ولم تُدفن إلى جانبه إلا عام 1930. بعد 85 سنة من لوحة التعاسات السوداء هذه بيعت واحدة من لوحاته العارية في "كرِستي/ نيويورك بمبلغ 170.000.000 دولار!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram