نجم والي
لنتخيل رجلاً شاباً، ربما كان التاسعة عشرة من عمره، ربما في العشرين، يدخل للمرة الأولى وفي يوم خريفي جميل صالة مكتبة معهد غوتة في دمشق. ما لم يعرفه هذا الشاب، إن اللحظة تلك، لحظة دخوله ستقرر مستقبله. لأن هناك، وعلى أحد رفوف الكتب، كان ينتظره كتاب. ينتظره هو فقط. من منا، نحن عشاق الكتب النادرة، نحن الغطاسين بحثاً عن اللؤلؤ، لا يعرف هذه التجربة؟ بعض الكتب تبدو كما لو تخفي نفسها، ركنها أحدهم دون عناية، تعيش وحدتها، غالباً مغطاة بالغبار، إذا لا تكون ذبلت، لكنها تصرخ، ما أن ترى شخصاً حميماً يقترب منها. بالتأكيد كان الكتاب "مراثي دوينو" للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكة تصرف بهذا الشكل. وإلا لم يكن هناك ماً حمل الشاب القادم من قرية سوريّة، كفرون، الواقعة في جبال النصيرية المسيحية، حيث بإستثناء الانجيل، لا يعرف المرء كتاباً آخراً، على دخول صالة مكتبة معهد غوتة، والتوجه مباشرة ناحية هذا الكتاب بالذات؟ والأكثر: لم يكتف بأخذ الكتاب في يده، تقليبه بفضول وقراءة القصائد المترجمة بلغة ثالثة، الإنكليزية، بل سيضع الكتاب في جيبه، ويأخذه معه إلى البيت؟
ستون سنة لاحقة سيحمر دائماً وجه فؤاد رفقة، أحد مجددي الشعر العربي، عندما يروي لي هذه القصة. طبعاً يضحك عليها لاحقاً، لأن بالضبط حرامي الشعر هذا سيأتي في أسبوع لاحق إلى مدير معهد غوتة، يعترف بسرقته ويعتذر منه. مدير المعهد الذي أعجبه الشاب، ضحك، لم يكتف بأهدائه الكتاب، بل حصل له على منحة دراسية ضمن برنامج دي أي أي دي (خدمة التبادل الأجنبي الألمانية) في المانيا. فؤاد رفقة كان قد وقع في حب ريلكة، لذلك قرر أن يدرس الفلسفة في توبنغن. المدينة التي اشتهرت جامعتها بدراسة الفلسفة، كانت مكة الشعراء الألمان. من هنا مر شيللر وغوتة، هنا عاش فترة هولدرن وليس أخيراً ريلكة نفسه. عدا ذلك يصعب على المرء فهم الشعر الألماني مثلما يصعب عليه ترجمته دون أن يكون تعلم الفلسفة الألمانية. الشعر الألماني والفلسفة الألمانية توأمان سياميان. الشعر الإنكليزي يجد الفلسفة هرطقة، الشعر الفرنسي يلعب باللغة. فقط الشعر الألماني ينظر بإجلال للفلسفة. بعض الفلاسفة الألمان كتبوا الشعر، نيتشة مثلاً. أيضاً لا يمكن تخيل فهم فلسفة هايدغر دون علاقتها بهولدرن. ليس من الغريب إذن، أن الشاب رفقة سيكتب لاحقاً أطروحة الدكتوراه عن مارتن هايدغر.
هل كانت مصادفة؟ الدخول الأول للمكتبة، لقاء واحد بكتاب ومستقبل، حياة إنسان ما قد قُرر؟ كما لو أنه هُيأ فقط لهذه الحياة، حياة الشاعر، المترجم، بروفيسور الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث عمل رفقة حتى وفاته في ربيع 2011؟ ترجماته لريلكة، وأيضاً لهولدرن، معروفة لمحبي الشعر في البلدان الناطقة بالعربية.
ما أزال أتذكر إعجابي أنا الآخر بـ "مراثي دوينو" عندما قرأته للمرة الأولى. شكراً لترجمة رفقة، التقى شاب آخر دخل للتو السادسة عشرة عاماً من عمره بريلكة للمرة الأولى، هذه المرة في مدينة صغيرة في جنوبي العراق، العمارة. لحسن الحظ كان عندي ما يكفي ما جمعته من يوميات مصروف الجيب لأشتري الكتاب من المكتبة العصرية لصاحبها عبدالرحيم الرحماني (ما تزال قائمة). هذا الكتاب كما "كتاب الساعات" كان البداية لعلاقة حب- كره للثقافة الألمانية، حملتني على فكرة، دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد، لاحقاً الأدب الألماني في جامعة هامبورغ. هيأتني أنا أيضاً إذن لحياة الكاتب، لدور وسيط كتب بين الثقافات/ كوزموبوليتي وجوال عوالم، محكوم عليه بالسير على خطى ريلكة! هل عرف ريلكة ذلك، بأن ناساً عند الجهة الأخرى من العالم ستتغير حياتهم بسبب كتبه؟ هل يعرف مؤلف كتاب ما، لا يهم من اي بلد يأتي، إذا كان من الشمال أم الجنوب، من الغرب أم من الشرق، بأن الكتاب الذي يكتبه، سيقرر مصائر بشر آخرين، بشر عاشوا حياتهم أصلاً خارج كتابه، في الحياة، في الهواء، في المجال، الذي يحيط به الكتاب؟ لكن أليس ذلك هو الأمر دائماً، عندما تقرر الكتب حياتنا؟