TOP

جريدة المدى > عام > دو بوفوار/ سارتر: وجهاً لوجه»… الفلسفة المُتصالحة مع الحياة

دو بوفوار/ سارتر: وجهاً لوجه»… الفلسفة المُتصالحة مع الحياة

نشر في: 9 أكتوبر, 2018: 09:33 م

 كه يلان محمد

يحفلُ عالم الفكر والأدب بقصص غرامية وعلاقات الصداقة الحميمة بين المشاهير، الأمر الذي قد يضفي على حياة هؤلاء طابعاً درامياً، ويدعمُ أعمالهم بطاقة مُتجددة، لأنَّ من يخوض غمار الحياة بكل ما فيها من الأمل واليأس والإحباط والإغراء، لا يركنُ إلى رتابة التنظير، ولا تعوضُه المفاهيمُ المُجردة عن متعة المغامرة، بحثاً عن دروب جديدة، وأنماط عيش مختلفة، هذا ما يعني أن الفكر يستمدُ من منابع الحياة عنفوانه.
كما أن رهانات الحياة تخرج من مدارات مسدودة مع الفكر المنفتح، هذه المُعادلة التي تجمعُ بين الفكر والحياة هي ما راهن عليها سارتر وسيمون دوبوفوار، إذ صرحتْ مؤلفة «الجنس الآخر» أمام الحضور في جامعة بريستون قائلةً: لم يعد هناك في فرنسا مبرر للكاتب أن يقف مُتفرجاً أو يعزِل نفسه في البرج العاجي. وكان سارتر آنذاك نموذجاً للمثقف الذي اندمج في تيار عصره ولم يقبع وراء أسوار الأكاديميات، وفتحَ صفحات مجلته «الأزمنة الحديثة» بوجه أشكال جديدة من الكتابات الفُكاهية والسير الذاتية للناس من جميع المراتب، وبهذا حطم ما سُمي بالأدب الجاد، وأصدر كتاباً عن بودلير، فضلاً عن دراسته الكبيرة عن فلوبير. كما يستحيل تجاهل مواقفه حيال التطورات والتحولات السياسية التي حفل بها القرن المُنصرم بدءاً باحتلال ألمانيا لفرنسا، ومن ثُم احتضار المرحلة الاستعمارية، وما تصاعد في ظل أجواء الحرب الباردة من الصراعات المُحتدمة على مُختلف الصعد، مروراً بثورة الطلاب في 1968 وانقلاب الجيل الجديد على كل المعتقدات والالتزامات الأيديولوجية وصولاً إلى مُتابعة القضية الفلسطينية، ومساعي الجهات الدولية لإنهاء الحرب في المنطقة، كل هذا يكشفُ أنَّ صاحب «الوجود والعدم» انخرط مع عصره بدون أن يفقد استقلاليته، وما ضاع صوته في ضجيج خطابات أيديولوجية متورمةِ، هذا إلى جانب ما عاشه سارتر على المستوى الشخصي من حياة صاخبة، على رغم زحمة النساء في سجل صاحب «الغثيان» العاطفي ستظلُ سيمون دوبوفوار اسماً مُقترناً باسم سارتر ويصعبُ تناول سيرة أحدهما بِمَعزل عن سيرة الآخر، لذلك جمعت هازل رولي بين حياة شخصيتين في مؤلفها الموسوم بـ«وجهاً لوجه، الحياة والحب» الصادر عن دار المدى 2017. إذ ترصدُ الصحافية الفرنسية من خلال ما ألفه الاثنان من الأعمال الفكرية والروائية والسيرية، إضافة إلى المقابلات الصحافية والرسائل المتبادلة بينهما تفاصيل حياة الفيلسوفين الوجوديين، وأركان الميثاق المنعقد بين دوبوفوار وسارتر.

عقل جبار
نشأت العلاقة الاستثنائية بين دوبوفوار وسارتر في مناخ فائض بالقلق والتطلع المعرفي، قبل معرفة دوبوفوار صديقها الفيلسوف، شغفت صاحبة «كل الرجال أموات» برينيه ماهو، إذ وجدت فيه صورة ابن عمها جاك الذي أغرمت به وهي مُراهقةُ. في المقابل فإنَّ سارتر عانى من تجربة عاطفية مؤلمة، بعدما فشل في نيل شهادة الأستاذية سنة 1928 فسخت عائلة جيرمن خطوبة ابنتها مع سارتر، زدْ على ذلك فإنَّ زواج أمه آن ماري عقب وفاة الأب برجل يدعى جوزيف مانسي بمثابة ضربةٍ موجعةٍ لسارتر، وكان عليه القبول بهذا التحدي المُتَمَثِل بشخص دخيل، قد يهونُ هذا الأمرُ إذا عرفتَ بأنَّ سارتر لم يتمتع بالوسامة، بل غالباً ما وُصِف بأنَّه قبيح الشكل، قصير القامة، ضعيف البصر، وإذ يفقد القدرة على الرؤية عندما يتقدم به السنُ، أصبحت صديقة عمره عيناً له تقرأُ له الصُحف والكُتبَ. عُرف سارتر وسط الطلبة بأنَّه سكيرٌ يرتادُ الحانات، وعندما تزور دوبوفوار برفقة ماهو مكان إقامة سارتر في المدينة الجامعية في جنوب باريس تنزعج الزائرة الجديدة بما يسود غرفة صديقين، هما نيزان وسارتر، من فوضى وقذارة، ولم يُلزمْ سارتر ولا صديقه بتغيير الأسلوب في الحديث، ومناقشة المواضيع المختلفة بطريقة أقل حدة وأخف صرامة، مراعاة لمن يكون حديث العهد بهم، ولا يبدأُ التقارب بين سارتر ودوبوفوار إلا في المدة التي سبقت الامتحانات المضنية، لنيل شهادة الأستاذية حيث نادراً ما افترق الاثنان قبل الأسبوعين من موعد الامتحانات الشفهية، وعندما تكتشفُ سيمون دوبوفوار طاقات سارتر الفكرية تصفه بالعقل الجبار، يُذكر أن الأساتذة تجادلوا حول منح الجائزة الأولى لسارتر أو لدوبوفوار، فالأخيرة قد تحولت إلى ظاهرة ثقافية بوصفها أصغر طالبة أنهت دراسة المنهج الفلسفي في غضون ثلاث سنوات، بينما سارتر احتاج إلى سبع سنوات لينجح، لن تكون علاقة الاثنين محدودة فقط بالطموحات والاشتغالات المعرفية، بل تنفتح على الجانب الحميمي والجسدي، وهذه التجربة ليست الأولى بالنسبة لسارتر ولا دوبوفوار، غير أن ما يفرقها عن التجارب السابقة لدى كل واحد منهما، هو التناغم القائم على المستوى الفكري، الذي وفر مقومات الاستمرارية لثنائية مميزة. كان سارتر متمردا على التقاليد البورجوازية، كما شاءت الظروف أن تنقلب حياة أسرة دوبوفوار نتيجة لما مني بها والدها من خسارات مالية، عقب سقوط الدولة القيصرية في روسيا، وبالتالي فإن احتمال زواج الابنتين دوبوفوار واختها على الطريقة البورجوازية قد تلاشى. وعندما يحلُّ آوان اللقاء بينهما في قرية ليموزين، ويمشي الاثنان مع بعض، تتوصل دوبوفوار إلى قناعة بأن علاقتهما لن تعرف الضجر، ولو استمر الحديث بينهما إلى يوم القيامة سيبدو الوقت قصيراً جداً. والأغرب ما بين سارتر ودوبوفوار هو اتفاقهما على عدم الزواج، ومعالجة مسألة الغيرة بينهما من خلال الشفافية والانفتاح على تجارب عاطفية أخرى، لذلك تمرُّ عدة شخصيات من كلا الجنسين بحلقة دوبوفوار وسارتر.

فلسفة اللذة
رفض سارتر أن تؤطر قوانين مسبقة حياته وتحد من خياراته، وكان يمقت منظومة الزواج والملكية، وتنقل بين الفنادق، ولم تعجبه نصائح الأطباء بضرورة الإقلاع عن التدخين والإفراط في الشراب، وما يصعب استيعابه في تجربة سارتر العاطفية هو تعدد علاقاته، أكثر من ذلك فهو تحمل نفقة معظم الفتيات اللائي اعتبرن من محظياته، ولم تتوج كل محاولاته في هذا المضمار بالنجاح، وكلما تعثر في ترويض إحدى الفتيات، تفاقم لديه الشعور بالاكتئاب والتوتر، هذا ما وقع له عندما أبتْ أوليغا وهي فتاة من أب روسي وأم فرنسية أن تكون جزءاً من قائمة نساء سارتر، وما وجد تعويضاً لهذا الإخفاق إلا في واندا أخت أوليغا، وعندما وصل الفيلسوف الوجودي إلى أمريكا نشرت «التايم» صورة له مع تعليق عليها «الفيلسوف سارتر.الضعيف أمام النساء»، كما قدمت سالي سوينغ من جانبها صورة عن تعامل سارتر مع النساء، مُعتقدةً أنَّ مؤلف «الذباب» يتصرف مع النساء كخزانة بأدراج. أنتِ في الدرج الأعلى، وهي في الدرج الأسفل وهكذا. وقد يكون الأمر مستغرباً إذا أضفت إلى ما سلف ذكره أن سارتر قد ألف معظم أعماله المسرحية من أجل إيجاد فرصة التمثيل لبعض عشيقاته، حين ينكشفُ الغطاء عن هذا الجانب المثير يتساءلُ المرءُ، هل أراد سارتر أن يكونَ امتداداً للأبيقورية؟ في المقابل أثارت سيمون دوبوفوار لغطاً بما أقامته من علاقات مع بنات جنسها، فأمرها في ظل سلطة الاحتلال النازي أحيل إلى المحاكم، ووصمت بالسحاقية، ولم يغبِ الرجال عن حياتها وقصص غرامياتها الحميمة امتدت إلى شيكاغو.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق يعطل الدوام الأحد المقبل

إعادة 20 مليار دينار إلى الشركة العامة للخطوط الجوية العراقية

بعد سنوات عجاف… هور الشويجة يعود إلى الحياة من جديد

البرلمان يناقش نظام المحاولات وتدرج ذوي المهن الطبية في جدول أعمال جلسته غدًا

إيران تتعهد بتعزيز الشفافية النووية وترفض التفاوض تحت التهديد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

موسيقى الاحد: تصنيف الأعمال الموسيقية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram