ياسين طه حافظ
قبل أن نُحاجج أو نقوّم المكتسبات العينة اليوم يتوجب النظر الى خلفيات نهضة هذه الفنون. أعني الى القرن السابع عشر حيث الجذور ممتدة هناك. فمن تلك التربة كان غذاء التفتح الفني في منتصف القرن التاسع عشر. عملياتنا أسسها هناك وكل التحولات الدينية والفلسفية والجمالية. لكن النتائج العملية، التطبيقات، كانت ملك التاسع عشر وملك نصفه الأخير تحديداً.
شدة الوعي، حجم التحول، فاجأنا بتفتحات جانبية، بحضور غير المتوقع. والفنان مرهف الحس، الأكثر وعياً بالإنسان وتعقيدات القرن العشرين حوله، أطلق صيحات مختلفات وكلها تحمل صفات المتفوق والضيق بالممكن. ومن هذه التي لم نكن نتوقع: والتي لم نكن نريد، هي دعوات " لا فن" وكراهة الثقافة البورجوازية والفن البورجوازي والنفور ما حولهم من ناس وأفكار . ومن خلال أفكار التقليد والحطّ من شأن قيمة الفن المعاصر. الفنانون المعاصرون وبالرغم من كل السنين التي مرّت لا أحد يحكم إن كانت هناك صحوة جديدة، شفاء من هذه النزعة المهلستية. موضوع ما يزال، وبالرغم من حجم النفور الشعبي، متروك لما يأتي من أيام.
لذلك يتعذر الحديث المثمر والسليم عن الفنون بعد الألفية الثانية إلا حديثاً عن معاناة ظروف الإنسان المعاصر وشروط عيشه. وفي زمن ما عاد فيه الجميع على وعي بالأزمة الحقيقية العميقة التي صار يعيشها المثقف وبمحنته في الحياة وقد وعى عمقها الستراتيجي ودمار الإنسان والضجيج الذي لا ينتهي والكدح الآلي. فالشعراء، الكتاب، الرسامون واجهوا المحنة بوعي حاد وسط بيئة يسحقها الكدح اليومي وتآلف الحشود من البشر مع مشاكل العصر الخشنة كما يتآلفون مع تحولات المواسم أو الكوارث أو أي ظرف سيئ وعمل أكثر إرهاقاً وأقل أجراً! معاناة الفنانين كانت أرضية ووجودية معاً. عموماً، فيها أزمات وعي وثقافة أكثر مما هي أزمات عيش.
ما يهمنا أن الفنان نقل تلك الأزمات ومراراته ومباهجه الصغيرة وتأملاته الى فنه. وهنا بدأت تحولات تقنية وأسلوبية وفيها يمكن أن نلمح رؤى روحية. ومثلما بعض هذه جديد على زمنه، بعضها الآخر غير مفهوم والأطروحات المهمة منه حتى اليوم تجتذب التأويل.
الشعر اتخذ مسارات فنية مشابهة نوعاً مختلفة ظاهراً اختلافات استوجبها التعبير الكتابي. وهذه غير تلك التي استوجبها التعبير اللوني او حركة الخط و توزيع الضوء. كما في الفن لا نعدم مظهريات زائفة. وهذه عادةً سريعة التفتح. وهي بسهولة أقل في الفن. لأن استعمالات اللغة أوسع من استعمالات اللون أو التخطيط. الرسم له قوة عزل كبيرة وآنية. لكن مصفاة الشعر بسبب كثرتها، مرّرت غير المرغوب به. وحتى اليوم تشغل الأوساط هذيانات لفظية لها أشكال قصائد. أعني إنها بألفاظ وآليات الفن الشعري. ولأن هناك قلة ممن يفهمون في اللون والظل والضوء والحركة في فضاء اللوحة، فأن الزائفين بينهم يتضحون. ولأن اللغة متاحة للجميع فقد كثر غير الفن وما يفتقد القيمة الأدبية، فلا إشارات عقلية ولا إضاءات لجديد كامن وراء ما يبدو مستهلَكاً وعادياً.
النقاد دائماً قلة ولا يستطيعون، أن تمكنوا، القيام بمهمة قشع الزبد من السواحل. فزمّوا شفائهم على عدم رضا وتركوا مهمة لا نهاية لها، مثل هذه، للزمن فمصفاته تعمل وإن كان عملها في بعض الظروف أقل، بل تتعطل أحياناً.
اللغة خدوم لجهات وأغراض شتى ويمكن أن يخضع بعض الشعر لجهات واحتياجات وظروف عيش وأغراض. عموماً هذا في الفن أقل. موجود، نعم. ولكنه قليل. فالمال والحاكم يستثمران كل شيء ...
بعيداً عن هذا الهامش، انتهاز الفنانين كان دائماً في مدى النظر الى العالم والى الارواح فيه. وهنا تكون التعبيرية والتكعيبية غير مختلفتين. عظمة الفن، مهما اختلفت الاساليب والتقنيات، في ان الزمن يظل حاضراً في الفن ويظل الإنسان حاضراً: الفن الإنسان العالم ، هي الثلاثية الدائمة..
الرواية ليست بعيدة وصعب مسح حضورها المؤثر في حيوية الفن وفي عدد من موضوعات اللوحات. وقد كان أصحاب الثقافة باختلافهم، أصدقاء استوديوهات وجلسات مقاهٍ : ورسامون، شعراء و كتّاب. ولعل مجموعات الراديكاليين كانت تؤججهم حماسة نارها من موقد واحد. علينا أن نفتح أعيينا الى أكثر من جهة لنقول: أميل زولا كان موجوداً. مثلما كانت من بعد جرترود شتايم الى جانب بيكاسو. وعلينا أن نتذكر حراك الزمن باتجاهاته كلها، فنقول: اصل الأنواع كان موجوداً والبيان الشيوعي كان ورأس المال نشِر في سنة 1876 وهنا يكون الحراك قد أعطى ثماره الناضجة. وتجمعات الكتاب والشعراء والرسامين والمفكرين ظاهرة طبيعية صنعتها ضرورة التعاون على الفهم واكتمال الرؤية. ولوحة ادوارد منش "رجال الأدب" The Men of Letters 1887 ، كتاب يجلسون الى منضدة يقرؤون ويناقشون كتباً على ضوء مصباح زيتي ...
هكذا كانت بدايات التحول. لنفتح أعيننا اليوم على تاريخ مدارس وعلى اساليب وعلى عالم مثلما يزدحم مكائن وأجهزة وحركات سياسية وعساكر، يزدحم آداباً وفنون وأفكاراً، في محاولة لإبقاء معنى وفرصة لسلام الروح والحياة في معتركات مادية مسلحة شرهة.
آخر ما أقول : نحن الورثة لكل تلك الرسوم والآداب والافكار، نتدفء اليوم بالنار التي اوقدها أولئك الإنسانيون الكبار. فهل سنترك نحن ناراً للتائهين غداً في قفار العالم يتدفؤون بها ؟