TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: الموسيقى، طربٌ ومعرفة

البرج العاجي: الموسيقى، طربٌ ومعرفة

نشر في: 14 أكتوبر, 2018: 06:51 م

 فوزي كريم

حين أزعم أن الموسيقى مصدر معرفة، أو أنها ذات علاقة بالمعرفة، فالزعم وليد إحساس داخلي أولاً، قبل أن يكون وليد متابعة لعلاقة الموسيقى بالفلسفة في الكتب الغربية، والعربية القديمة. ثمة شيء طربي في "رباعيات" بيتهوفن الأخيرة، ولكن ثمة شيء أبلغ تأثيراً من الطرب، يجذبك إلى التأمل الروحي والعقلي. حتى أن "فيثاغورس" اليوناني، و"إخوان الصفا" العرب رفعو مصدر تأثيرها إلى "موسيقى الكواكب"، التي لا تلتقطها الأذن.
في القيم الفلسفية المعروفة: الجيد في "علم الأخلاق"، والحقيقي في "علم المنطق"، والجميل في "علم الجمال" ثمة رابط واضح يقول: إن الجميل لا بد أن يكون حقيقياً، والحقيقي لابد أن يكون جميلاً. وكلاهما لابد أن يكونا جيدين.
خذ "علم الجمال" منفرداً، لترى الغنى المعرفي حين يحاول الاجتهاد في الشأن الموسيقي. ففيه يتوزع الفلاسفة عبر العصور على اجتهادات متباينة. كثير منهم، من أمثال "أرسطو"، "كانت"، و"هيجل"، يرون الموسيقى لغة العواطف، التي تحاكي، أو تعيد صياغة، أو تعبر عن حالات فيزيائية، وعن توق وشغف. "شوبنهاور" و"نيتشة" يريان في الموسيقى تعبيراُ لا عن المشاعر بل عن "الإردة". في حين هاجم النمساوي "هانسلِك"، في منتصف القرن التاسع عشر، هذه الاجتهادات التي تُعنى بالتعبير العاطفي، وأرجع جوهر الموسيقى إلى مجرد صوت وحركة. فلاسفة متأخرون انتزعوا الموسيقى من علم الجمال ليروا فيها نوعاً من المعرفة والفكر.
إلى جانب نظريات المثقفين التي رأت الفن نوعاً من المعرفة هناك اجتهاد فلسفي مؤثر يؤمن أن ثمة إحساساً خاصاً، قوةً جمالية معينة تنتسب إلى العقل، بدل العاطفة الانسانية المعتادة التي ظلت لفترة طويلة كاستجابة مُعتمدة للخبرة الجمالية. هذا الموقف الفلسفي لا ينكر أن الفن يرتبط بالعاطفة، ولكنه يتساءل إذا ما كانت هذه العواطف التي نستقيها من الفن استثارة خاصة جداً، وعاطفة جمالية محددة جداً بدل أن تكون هي ذاتها المشاعر المعتادة التي نستعيدها في لحظة صفاء. هؤلاء جميعاً، من فلاسفة وموسيقيين ورسامين ونقاد شاءوا أن يستظلوا براية "الشكل الدال" في ذاته، كانوا يرون بأن الاستثارة العاطفية التي تولدها فينا الأعمال الفنية إنما تعود إلى إحساس جمالي خاص، وأن المتعة والرضا بهذا الحافز الجمالي إنما هي نوع نادر من الاستثارة، مستقلة تماماً عن العاطفة المألوفة في حياتنا اليومية. إن العاطفة المستثارة بفعل الفن إنما يولدها "الشكل الدال".
واضح أن هذا المصطلح لا ينطوي على وضوح كافٍ، لأن الشيء إذا ما كان دالاً فلا بد أنه يدل على شيء ما. فما الذي يدل عليه الشكل الدال، وما الذي تدل عليه الموسيقى الخالصة التي لا تعتمد نصاً مكتوباً كالأغنية والأوبرا؟ الجواب هو: "لا شيء وراء الموسيقى في ذاتها."
تؤكد هذه النظرية بأننا نملك حاسة جمالية، وفاعلية هذه الحاسة هي في تأمل العلاقات الشكلية، وهي منفصلة عن الحياة الغريزية (عواطف الحياة العادية) التي نعرفها. "العاطفة الجمالية" ليست عاطفة أحاسيس ولا أشياء ولا أشخاص ولا أحداث، ولكنها عواطف "علاقات"، علاقات شكلية شأنها شأن العلاقات بين النوتات التي تؤلف اللحن. التنظيم الشكلي هو جوهر الفن؛ والتعرف على الشكل لذاته يولد العاطفة الجمالية، ولكن بقدر ما تتعدد الفنون تتطلب مضامين لتتجسد في تلك التنظيمات الشكلية، إلى جانب عناصر أخرى من الميزات الحسية كاللون اللحني والنغمة، إلى جانب ما تدفقه الحياة الحقيقية، والأفكار الأدبية، وهي تقدم عواطف إضافية بفعل التواصل والذاكرة والميل الملح للعقل في التعامل مع الصور كرموز. الفنون المختلفة تعاني من هذا الشيء بدرجات مختلفة. الرياضيات للأسف ليست فناً، ولكنها لو كانت لأصبحت فناً متفوقاً إذ لا موضوع فيها لم يتشربه الشكل. إنها تأمل العلاقات المجردة عن أي شيء ذي صلة خارجها. موسيقى الآلات خالصة لأن الصوت يملك تكويناً فيزيائياً بالغ الرقة؛ فإذا ما بقيت مجردة عن أي تأثير أدبي فهي أفضل الفنون.
هذا ما تجتهد به الفلسفة من غنى معرفي بشأن الجمال الموسيقي، فكيف إذا ما واصلتَ مع "علم الأخلاق" و"علم المنطق"؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram