TOP

جريدة المدى > سينما > الرجلُ القديم في الزمن الحاضر : الحاجة والصفر الثقافي فيcast away

الرجلُ القديم في الزمن الحاضر : الحاجة والصفر الثقافي فيcast away

نشر في: 24 أكتوبر, 2018: 07:39 م

مهند الخيكاني

لعلَّ أجمل الأفلام ذات الأبعاد المعرفية في تحليل واستكشاف بعض جوانب "الطبيعة البشرية" الأساسية ، هو الفلم الأميركي cast away من بطولة الممثل القدير توم هانكس ، وإخراج روبرت زيميكر ، من إصدارات عام 2000 ، وتم ترشيح توم هانكس للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل .
تبدأ أحداث هذا الفيلم بعد تحطم الطائرة وسقوطها في جزيرة نائية وغير مأهولة ، حيث يكون " تشاك نولاند " الشخصية البطلة في الفيلم ، هو الناجي الوحيد ، فيبدأ رحلته بالتعرف إلى العالم من جديد والعالم المحيط به يقوم بذلك التعارف أيضاً ، لن نكون مخطئين إذا قلنا إنه يشبه الولادة . ذلك أن الدخول الى عالم جديد مبهم وضبابي يغوص في حدود لا نهائية من المجهول ، يستدعي مرحلة عمرية وفكرية من حياة الإنسان لن تتعدى مرحلة الطفولة .
وهذا ماحدث مع البطل بعد أن أدرك استحالة العودة الى عالمه الذي كان ينتمي إليه ، آخذاً بالانسجام والبحث والتكيف في العالم الجديد الغريب ، وكما قلنا كالطفل ، يعتاد تدريجياً على الحياة من أجل أملٍ هشٍ في يوم ما بالعودة .
أوّلُ الملامح التي نتعرف عليها بما يخص الجانب الإنساني ، من خلال الفيلم ، إن الإنسان لا يستطيع العيش وحيداً ، وإنه مجبولٌ على العيش في أطُر أجتماعية مع الآخرين ، ومن ذلك يخترعُ البطل شخصية " ويلسون " صديقه الوحيد خلال هذه الرحلة ، وحتى نتوخى الدقة أكثر ، كان صديقاً لإجراء المحادثات بمختلف مضامينها ، بمعنى أن الإنسان يحتاج أن يخاطب إنساناً آخر ، وإنه لن يقاوم أن يبقى وحيداً يتحدث مع نفسه فقط ، وإنه يبتكر مايحتاجه ، ودعونا نركز على " مايحتاجه " ، فهي في آخر الأمر المحرّك الرئيس والغريزي الذي دعا بطل هذا الفيلم لاتخاذ كرة طائرة سمّاها "ويلسون" أن تكونَ صديقاً . إذ لم يكن كافيا بالنسبة له أن تكون مجرد كرة يلهو بها وتؤدي دورها كما هو محدد لها ، بل أزاحها باتجاه ما يحقق له حاجته البشرية ،و حاجته لوجود مجتمع حوله . وهي فكرة منطقية الى حد ما ، حيث نرى حتى في قصة آدم وحواء ، إنهما نزلا معا الى الأرض ، بغض النظر عمن سبق من في إطار زمني دقيق ، لكنهما كانا هناك معاً ، ليس فقط من أجل التزواج والتكامل بل من أجل المؤانسة أيضا . من ذلك أيضاً أهمية الحديث الى الأشخاص تجيء من طريقة فرويد ، العلاج بالحديث ، ولو لم تكن هذه الصفة متجذرة في الانسان ، لما كان الحديث يخفف من حدة مشكلاته ، وهنا تكمن أهمية الحديث ، أهمية أن تثرثر عن معاناتك ومآسيك ، هذا غير أن المجتمعات البدائية التي كانت تعتاش على الصيد والإلتقاط ، كانت مضطرة الى التوحد والعيش كجماعات من أجل العيش والنجاة ، وليس فقط من باب الألفة والمؤانسة والحاجة البشرية الى الآخر ، الأمر الذي لا يختلف من عصر الى آخر إلا في شكل الحاجةِ ومضامينها الجانبية لا الأساسية تبعاً لتغييرات الحياة ومجرياتها ، وانعكاس بعضها على بعض .
الأمر الذي يعيدنا إلى بدايات هذا العالم ، بغض النظر عن حتوتة آدم وحواء ، سنلاحظ إن الإنسان في ذلك الوقت وفي بدايات تأسيس المجتمعات البدائية ، إنه كان ميالاً مثل ميول هذا الرجل الوحيد على الجزيرة ، مبتكراً وكان ابتكاره تلبيةً للحاجة التي تنادي بها أعماقه ، وقد يسأل أحدهم : إن البطل في هذه القصة جاء من مجتمعٍ غير الذي جاء منه الرجل الأول في بدايات تأسيس العالم ؟
وسنقول له : لا فرق ، فلو لم يتحرك الرجل الأول بنفس طريقةِ الرجل الذي في هذه القصة ، لما وصل مجتمعه الذي جاء منه الى ما هو عليه !
ثم إن هناك مشتَركات بين النظرية السماوية / هبوط آدم وحواء ، وبين النظريات الأخرى في تكوّن الحياة بشكل عام وليس الانسان فحسب ، أهمّها أنهما عندما هبطا الى الأرض ، هبطا في مكان يحتاج الى تأسيس من الصفر إجتماعيا وثقافيا وبشريا ، والانسان الأول في بقية النظريات ، هو أيضاً إنسان بدأ من مرحلة الصفر نفسها ، وعلى الرغم من أن آدم وحواء هبطا من السماء ، إلا أن أولادهما هابيل و قابيل ، مثّلا طبيعة الصراع البشري الازلي بأقصى تجلياته ، وهو ما لايختلف عن الاحداث في بقية النظريات .
و بغض النظر عن صحة هذه النظرية أو تلك ، نحن نقف على ملامح بشرية مشتركة تحددها السماء والأرض مجتمعتين ، قائمة على الصراع والبحث عن الغذاء ، وفي النتيجة تحقيقا للنجاة ، بدءا من مجتمعات الجمع والالتقاط وليس انتهاءً بمجتمعات الزراعة في ذلك الوقت ، قائمة على هذا الصفر المشترك . و هناك جانب تاريخي آخر ترتبط فيه بعض جوانب هذه الشخصية وعلاقتها بالكون والبيئة ، مع شخصيات كارتونية شهيرة عرفناها في الحقب الماضية ، وسُلطت عليها الأضواء لآماد طويلة ، مثل شخصية ماوكلي / فتى الادغال ، وطرزان ، وهما مقتبستانِ بإتفاق الآراء من قصة حي بن يقظان الشهيرة التي كتبها فلاسفة عديدون مثل ابن سينا ، والسهروردي ، وابن النفيس ، والتصقت ب ابن طفيل .
وبذلك أننا نستطيع دراسة الماضي والتعرف على " الطبيعة البشرية " أكثر على الرغم من كون هذا المفهوم فضفاضًا ، بحسب رأي معظم علماء الأنثروبولوجيا من جهة وعلماء الوراثة من جهة أخرى ، إلا أن هناك ملامح يمكن من خلالها فهم الإنسان القديم وطريقة تفكيره ، وبعض سلوكياته عبر تجارب حديثة مثل هذا الفلم . أو عبر دراسة الأطفال في الوقت الحاضر ، فالطفل هو نفسه بالأمس وهو نفسه اليوم ، ومن خلال مراقبة عينية للطفل ، سنرى أن هناك سلوكيات مجبول عليها الإنسان ، مثل الحاجة الى النطق ، وهو ما نسميه لدى الطفل " المناغاة " أو " يناغي " ، أو البكاء عند الشعور بالجوع ، أو " اللجّة " وعدم الاستقرار ، عندما يضايقه شيء ما في جسده ، والحاجة الى النطق هنا تستدعي الحاجة الى اللغة من جانب كنتيجة متوقعة يجب أن يصل إليها الكائن البشري خلال مراحل حياته ، ومن جانب آخر نزوعه لتحقيق حاجاته عبر المخاطبة والتنبيه والإشارة بصيغ مختلفة .
إن البشري في ذلك الوقت مهما كان عمره ، فهو يساوي هذا الطفل المولود حديثًا الآن ، كون كل منهما الطفل والإنسان المولود حديثاً ، في المنطقة صفر ثقافياً و إجتماعياً وبلا خبرات . بمعنى آخر ، أن أكثر الاستجابات ستكون استجابات محددة ضمن إطار الحاجة والنجاة . وصحيح إن حاجة الإنسان تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى ، إلا أن الحاجات الأساسية اللازمة للنجاة ستظل ملازمةً للكائن الحي طوال حياته ولا تميّزُ مرحلةً عمريةً معينة عن الأخرى .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram