سنان باسم
لم يدر في بالي أن أجلس مجاوراً للبنانيين ، لأشاهد في بيروت رائعة نادين لبكي " كفرناحوم " ، أي رائعة أتكلم عنها ولماذا ؟ ، حسناً للكلام بقية غالبة التأثير ، بداية الفيلم من منظر علوي بطائرة " درون " لكفرناحوم ، وهو مخيم بائس واحد أحياء بيروت ، تقطع الصورة على محكمة لطفل يقوده شرطي ،وينادي القاضي على زين ، الطفل زين هو بطل ومحور الفيلم ، كما ينادي القاضي على والدي الطفل ، ويسأله ( لماذا تريد أن ترفع عليهما قضية ) ، الاجابة صادمة ومحيرة في آن واحد : لأنهما انجباني ، تنطلق نادين لبكي من هنا نحو ملحمتها الاجتماعية الصامتة ، فالحوار ندر وقعه وشح ملمسه في مساحة الفيلم المتنوعة ، ليبدو لنا أن ماجال في ذهن لبكي ، عكسته تصورا ًوتنفيذاً بعد سنين الكليبات ، في تفاصيل كفر ناحوم ، انطلق الفيلم ليروي قصة مأساوية مزكرشة بلمسات ترقب وفرح وكوميديا ، تبدأ من شقة بائسة يقطن بها زين مع عائلته الكبيرة والتي تكبرها اخته ، حيث المنام والمأكل والجلسة في مكان واحد ، كتب عليهم الشقاء فيه جراء كسل أب لايعرف غير الأكل والنوم والانجاب ، ليضطروا الى العمل في بيع أي شيء متاح من أجل إعالة الأسرة الفقيرة ، الفيلم الذي تضمن السب والشتيمة القاسية ، تلقته الاسماع بشكل عادٍ في قاعة السينما إلا أنا باعتباره جزءاً صعب التفسير ، لكنه بات يسيراً كونه من المسلمات المجتمعية ، والذي أعطى صدقية في الحوار نقدها في مجمل أعمالنا بسبب تغليب المثالية على الواقعية .
تجرك القصة الى شأن أخر ، حيث صاحب الدكان الذي يحاول استدراج اخت زين ، من أجل خطبتها والزواج منها ، حيث يدرك زين مآربه الدنيئة ، ويقف عائقاً لتزويج أخته القاصر من شاب بالعشرين من عمره ، لكن الأمر يذهب في النهاية الى الزواج ، من أجل المال ولاغير ، ليهرب الصبي الى بيت جدته معرباً عن رفضه وامتعاضه ، وهنا تتغير تفاصيل حياته إذ يركب الباص ، وفي الطريق يتعرف على الأشخاص المتنكرين بزي " سبايدر مان " لكنه طاعن في السن مايجعله مثاراً للضحك والجدل ، وليتضح أنه يعمل في مدينة ألعاب على ساحل الروشة الشهير ، ماجعل زين ينزل خلفه ليتعرف على حياته ، وهناك يتعرف على عاملة أثيوبية كانت تعمل خادمة في وقت مضى ، لكنها تضطر لترك عملها السابق بعد أن انجبت من البواب بشكل غير شرعي مااضطرها للهروب ، لتبدأ قصة أخرى من رحم معاناة أقسى ، تفاصيلها تبدأ من بيت من صفيح تسكنه العاملة الاثيوبية ، وهنا تقصدت لبكي في إظهار الجانب اللا إنساني الذي تعيشه العاملات الاجنبيات في بيروت ، بالاضافة الى معاناة الاندماج والعمل ، ليسكن الطفل زين في هذه الخربة ، وليعتني بطفلها بعد أن جعلته يعيش معها لتكون المنفعة متبادلة ، وليستمر الأمر عمل في الصباح وأخر في المساء من أجل جمع المال والهرب من لبنان ، لكنها تقع في قبضة القانون ، بعد أن إتضح أن أوراقها الثبوتية مزورة ، لنصل الى أقسى لحظات الفيلم ، وهي الانتظار بالبيت والتجوال والبحث بعد ذلك عن الأم الاثيوبية التي تركت ابنها الرضيع مع زين ، وهنا تسمع حسرات المشاهدين واندماجهم ، وإن التفت اليهم لوجدت دموعا ًتنساب بلا شعور ، وليصل الفيلم الى نهايته التي تذهل من لديه ذائقة جمالية ورؤية فلسفية للسينما ، إذ تقصدت لبكي في وضع إبتسامة كاذبة على وجه الصبي ، لتوصل رسالة بأن صعوبة العيش وأزمات الحياة ، تنسيك حتى الابتسامة وإن فعلت فلانها كذبة لا أكثر .
تجربة نادين تستحق أن ترى أوسكار لأفضل فيلم أجنبي ، وتحاكي واقعية إيطاليا الجديدة برؤية حديثة ، تقاس على قصر الكلام وجزالة التعبير ، وما أجمله من هدف منشود .