TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: خلاصات الحكمة : الحب والمعرفة والتعاطف

قناديل: خلاصات الحكمة : الحب والمعرفة والتعاطف

نشر في: 3 نوفمبر, 2018: 07:22 م

 لطفية الدليمي

من بين العظماء الذين أواصل قراءة تراثهم الفكري والفلسفي كل حين (برتراند راسل) الذي يبهجني فكره المضيء وحكمته الميسرة وهي تتعالق مع تشوقات الحياة الإنسانية للحب والخيروالسلام.
ظلت الحكمة والأخلاقيات الكامنة وراءها المثال الذي دفع بفكر برتراند راسل وألهمه أكثر ممّا فعلت أية قيمة أخلاقية أو فلسفية أخرى، وليس هذا بغريب على مثاله إذا ما علمنا أن راسل كان فيلسوفاً كبيراً؛ وأن حب الحكمة لديه يمتلك معنىً عملياً وأخلاقياتياً مباشراً لانعثر على الكثير منه في غالب الأعمال الفلسفية ؛ فالمعرفة مثلا يمكنها أن تكون تخصّصية أو تجريدية أو عملية أو مطلوبة بذاتها ولذاتها وكل ما يهم فيها في نهاية الأمر أن تكون صحيحة ومفيدة من وجهة النظر العملية.
بينما يختلف الأمر تماماً مع الحكمة الأصيلة، فهي ليست مجرد قيمة تحسب بالقياس إلى صحتها، بل بالقياس إلى قدرتها على الارتقاء بنوعية الحياة الإنسانية، ومن هنا يسعنا القول أننا متى ما صادفتنا حكمة عاجزة عن تحفيز الحياة البشرية والارتقاء بحساسيتها الأخلاقية، فسوف نكون عندئذ أمام حكمة جوفاء باطلة وزائفة.
يخبرنا المعلم الكبير راسل عاشق الحكمة الأصيلة بأجمل أسرار ارتقاء حياته وفكره فيقول " تحكّمت بحياتي ثلاثة مشاعر بسيطة لكنّها غير محدودة في قوتها الطاغية : توق جارف للحب، وبحث لا يهدأ عن المعرفة، وإشفاق عظيم تجاه هؤلاء الذين يقاسون ويتعذبون" بهذه العبارات البسيطة، وعظيمة الدلالة في الوقت ذاته، مهّد الفيلسوف البارز للجزء الأول من سيرته الذاتية التي تعكس حياة ثرية تليق بفيلسوف حقيقي يستحقّ بجدارة أن يكون المعلم الفكري والإنساني الأبرز في القرن العشرين بأكمله. لم يكن راسل فيلسوفاً حسب بل هو أكثر من ذلك : كان رياضياتياً، وداعية سلام بارزاً، ومعلّما، وعارضاً للأفكار العلمية الحديثة المبسطة لعامة الناس، وناقداً ثقافياً وأدبياً، وقد منحه هذا الطيف الواسع من الاشتغالات قدرة التعليق على كل الموضوعات التي يتناولها وبخاصة إذا ما علمنا أنه كان ميالاً إلى تأكيد علاقة الفلسفة مع كل أنماط التساؤلات والاشتغالات المعرفية الأخرى. وقد أبان راسل في مواضع مختلفة أنه كان شديد التوق للحقيقة ومكرّسا كل حياته ومساعيه لبلوغها حتى في تلك الظروف الحرجة التي تسبّب فيها سعيه إليها في إرباك حياته المهنية المريحة أو اضطراره إلى مراجعة أفكاره التي كان يعتقد بها في فترات مبكرة من حياته ، فكما لايخفى على محبي فكره أن الرجل دخل السجن مرتين ؛ مرة في بواكير حياته لمعارضته دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى ، ومرة ثانية لموقفه الرافض للحرب الأميركية في فيتنام.
لطالما تساءلت كلّما قرأت هذه الأقانيم الثلاثة التي جعلها راسل منارة تهدي حياته في مختلف أطوارها : ما الذي ستكون عليه حال الإنسانية لو فكّر كل فرد في جعل هذه الموجهات الثلاثة أساسا لحياته؟ ستكون الحياة حينئذ نمطا يقارب اليوتوبيا من الصعب تخيل عظمته وبخاصة أن امتلاك مثل هذه الأخلاقيات المتسامية يتطلب عملاً شاقاً يقترن بالكثير من الجهد والرؤية المستبصرة المدفوعة بروح تنأى عن الأنانيات الضيقة ؛ وسيكون من حقنا في كل الأحوال أن نحلم، نحلم فحسب بعالم تمثل فيه هذه الفضائل الثلاث نوعاً من خلاصات جوهرية تتمّ رعايتها وتنميتها لدى كل البشر لتصبح نمطا سلوكيا مشاعاً ، لعله سيكون الحلّ الأمثل في مواجهة معظم المشاكل الكارثية التي تواصل تهديد الحياة بجميع أشكالهاعلى كوكبنا. سامية هذه الرؤية الإنسانية لبرتراند راسل، ومحظوظ ذلك الذي جعل الحب والمعرفة والتعاطف موجهاتٍ لحياته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram