ستار كاووش
إقتَرَبَتْ خطوات رجل غريب الأطوار من متحف رايكس في قلب أمستردام، ليدخلَ المتحف ويقترب من أعظم لوحة هولندية، وأقصد الحراسة الليلية لريمبرانت، وبلمح البصر أخرَجَ من جيب معطفه سكيناً وهجم بها على اللوحة. وقبل أن ينتبه الحراس ويسرعون بإتجاهه، كان قد أحدثَ شقوقاً طويلة في رائعة القرن الذهبي الهولندي. مرّت على هذا الحادث فترة طويلة، وقد تم إصلاح اللوحة وصيانتها، لكن مع مرور الوقت، تغير اللون وإنطفأت الصبغة في المكان الذي تم إصلاحه أسفل اللوحة، في موضع الفتاة الصغيرة والكلب، حيث بدا اللون كالحاً والورنيش الذي طليت به هذه الأجزاء أصبح اكثر إصفراراً. هذه المسألة كانت كافية ليستنفر المتحف ويعقد المختصون مؤتمرات ولقاءات، ويقدمون أبحاثاً ودراسات ورؤى، لإعادة الحياة للحراس الليليين ومنحهم ألوانهم وبريق عظمتهم كما صورهم أستاذ عصر الباروك.
هكذا ينشغل المتحف الآن بالتحضير لأكبر عملية صيانة فنية في تاريخه، وخاصة إن المتحف يعتبر المرجع والجهة الرسمية المختصة بأعمال وتقنيات وتاريخ ريمبرانت، وقد قام سابقاً بالعديد من أعمال الصيانة لأعماله الخالدة. وقد شهدت هذه اللوحة على وجه الخصوص (26) عملية صيانة خلال (376) سنة. الجديد في هذه المرة، إن العملية ستكلف ثلاثة ملايين يورو، وإنها ستكون تحت أنظار الزائرين، وستنقل بشكل مباشر على قناة المتحف ليتابعها الملايين. ولهذا الغرض صَمَّمَ المعماري الفرنسي جان ميشيل غرفة زجاجية شفافة جداً، ستوضع وسط المتحف، وتضم اللوحة مع فريق العمل، وبإمكان أي زائر أن يتابع ذلك من مسافة سبعة أمتار.
لقد استخرج المتحف ذرات صغيرة من ألوان اللوحة ذاتها، وتمت دراستها لانتاج نفس الألوان التي رسم بها ريمبرانت رائعته، بعدها جاءت الخطوة التالية، وهي تصوير اللوحة عن طريق سكنر متطور جداً، وقد إستغرق التصوير سبعين يوماً، بحيث تمّ تحليل كل مليمتر من اللوحة وكل خيط من نسيج القماش المرسومة عليه، مع معرفة فروقات اللون وطبقاته وحركة الفرشاة واتجاهها وكذلك المعالجات والتقنيات التي قام بها ريمبرانت، وعدد طبقات الورنيش التي وضعت عليها عبر القرون.
ستنتهي عملية الصيانة في السنة القادمة. وستعرض اللوحة التي يشاهدها سنوياً أكثر من مليوني زائر، من جديد صحبة معرضين كبيرين لريمبرانت بمناسبة مرور 350 سنة علـى وفاته. المعرض الأول سيكون تحت عنوان (كل ريمبرانت) وفيه ستعرض جميع مقتنيات المتحف في معرض واحد لتضم أعمال الفنان الزيتية بـالإضافة الى كل تخطيطاته وأعماله الغرافيكية. أما المعرض الثاني فسيكون بعنوان (ريمبرانت - فيلاسكيز) وهو عبارة عن حوار بين الأستاذ الهولندي والاستاذ الأسباني.
تعتبر الحراسة الليلية أهم ممتلكات مدينة أمستردام، وقد أخذت مكانها في متحف رايكس سنة 1808 بعد أن خَصَّصَ لها المعماري الذي صًمَّمَ المتحف (بيير كلوبرس) صالة شرف، إستقرت فيها الـى يومنا هذا. رسم ريمبرانت هذه اللوحة العظيمة حين كان في السادسة والثلاثين من عمره، وهي المرة الوحيدة التي رسم بها مجموعة من الرماة، بكل حركاتهم وإيماءاتهم ونظراتهم الاحتفالية وهم يسحبون خطواتهم وسط العاصمة الهولندية. هنا أظهر هذا الرسام أجواء الحي الثاني وسط امستردام، وكيف يحتفل هؤلاء الحراس بالكابتن (باننك كوك) ومساعده (فيليم راوتنبرخ). لكن الغريب في موضوع اللوحة، أن ريمبرانت بعد أن كُلِّفَ وقتها برسم مجموعة من "البورتريهات" لفرقة الرماة في امستردام، لم يجد الوقت الكافي لرسمهم منفردين في لوحات عديدة، لهذا فَكَّرَ هذا العبقري بجمعهم في لوحة واحدة كبيرة يتقدمهم الكابتن. وهكذا رسم لنا هذه اللوحة التي نرى من خلال منظورها وحرية الحركة في شخصياتها بالاضافة الى التقنية والاضاءة الفريدة التي تغلفها، كيف خرجَ عن الأُطر التقليدية للرسم الكلاسيكي وحركة الاشخاص التمثيلية الباردة. لكن مع ذلك لم يحصل وقتها على أجوره كاملة، فقد إعترض بعض الحراس بسبب وجودهم في الظل، ولم يسلموه مستحقاته، والبعض الآخر سَددوا له نصف الأجور لأنهم أيضاً كانوا غير ظاهرين بشكل جيد مقارنة ببعض الشخصيات الرئيسية في اللوحة.