TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الناقد البلجيكي والخروف العراقي

باليت المدى: الناقد البلجيكي والخروف العراقي

نشر في: 10 نوفمبر, 2018: 06:45 م

 ستار كاووش

أستلفتُ من أحد أصدقائي مبلغاً جيداً من المال وذهبت لإصطحاب البلجيكيين الثلاثة الذي جاءوا لزيارة بغداد سنة 1992. كان من المفترض أن يرافقهم الفنان سعدي الكعبي، لكنه بعد أن لاحظ إستيائي في جمعية التشكيليين حول عدم اعطاء الفرص لشباب الفنانين، إقترب مني صحبة الفنان اسماعيل فتاح قائلاً (ستار، إذهب أنت وقابلهم، أنت مازلت شاباً، دعهم يَطَّلِعونَ على أعمالك ويتعرفون على بغداد). إلتقيتهم في اليوم التالي أمام فندق الميريديان، وتعرفت كان رساماً ويُدعى (سْفِنْ) وهو بعمري في ذلك الوقت، والثاني (مارك) وهو نحات وكاتب في أواسط الاربعينات من عمره، والثالث كان دكتورآً، نسيت اسمه وهو بعمر الأربعين تقريباً، وكان يدخن الغليون. كنت أسكن في منطقة شعبية يصعب الذهاب إليها مع هذا النوع من الضيوف، لذلك إتفقت مع الصديق الفنان محمد الشمري على نقل بعض تفاصيل أعمالي لمرسمه الذي يقع في الكرادة، للقائهم هناك، وبما أني كنت منشغلاً أيامها برسم بورتريت لصديقة محمد في ذات المرسم، فبدا الوضع طبيعياً وكأني فعلاً أشاركه المكان.
مررتُ عليهم في اليوم الثاني واصطحبتهم في سيارة تاكسي الى الكرادة، وكان محمد الشمري إضافة الى تمكنه من العزف على الكيتار والغناء، أريحياً وخبيراً بصنع أجواء ممتعة ومليئة بالحبور. اثناء الحوارات سألونا عن مشروبنا الوطني، فنظر محمد نحوي بطريقة أبطال القصص المصورة، وَمَدَّ يدهُ ليَسْتَلَّ قنينة عرق من تحت الطاولة ويقربها من وجوههم، ونحن نردد معاً (ذَ مِلْك أوف لَيونز). إستهوتهم السهرة كثيراً، وعند منتصف الليل باغتونا متسائلين عن أشهر أكلة شعبية في العراق، لنجد أنفسنا بعد قليل نلتئم حول مائدة مستديرة توسطتها صينة الباجة مع أنواع المخللات. نظروا الى رأس الخروف وهو يتوسط الصينية الكبيرة، فطارت السكرة من رؤوسهم وهم يتطلعون الى أسنانه البارزة. ولو كان الموبايل متاحاً ذلك الوقت، لرأينا صورهم السيلفي الآن على فيسبوك صحبة رأس الخروف وبقايا ضحكته المحطمة.
في مساء اليوم التالي إصطحبتهم الى جمعية التشكيليين لقضاء بعض الوقت. وبسبب ضائقتي المالية وتأثير الحصار آنذاك، لم استطع لقاءهم في اليومين الأخيرين، لكني قبل ذلك كنت قد اعطيتهم بعض المطبوعات والبروشورات عن أعمالي ومعارضي. وقد بدوا سعيدين وهم يقلبونها، وعبروا عن إعجابهم بنجاحي وأنا في ذلك العمر، علماً بأنهم لم يجلبوا معهم أي مطبوعات أو شيء حول معارضهم او نشاطاتهم الفنية أو الثقافية.
بعد سنوات طويلة من ذلك الحدث العابر مع هؤلاء البلجيكيين، كنت في سهرة مع بعض الاصدقاء الفنانين بمدينة لاهاي، عندها دخل صديق اسمه فلوريس. وهو مهتم بالفن التشكيلي وله كتابات عديدة، إضافة الى أن أمه كان لديها غاليري في أمستردام. إقترب فلوريس مني وربت على كتفي قائلاً (البارحة قرأت شيئاً عنك لكاتب بلجيكي) حييته على متابعته السخية وأصابني الفضول لمعرفة ما مكتوب عني، وبعد البحث، وجدت أن (الصديق) القديم مارك قد أَلَّفَ كتاباً حول تلك الرحلة. وقد إطلعت على جزء من كتابته في أحد المواقع، وكان يتحدث عن رحلتهم بشكل عام الى العراق، وليس بالتحديد عن الفن والثقافة، وقد حيَّرَني وأثار إستغرابي أن كتابته تخللتها نبرة استعلائية، وطريقة رؤيته للتفاصيل لا تخلو من نظرة أتنوغرافية، وهو يتحدث على سبيل المثال عن لغتنا الانجليزية غير الجيدة أو عن رأس الباجة الذي بدا مخيفاً، وكيف لنا أن نأكل هذا النوع من الطعام... ومثل هذه التفاصيل التي أراها كعراقي عادية وهي ليست أكثر غرابة من (طبيب بلجيكي، ويدخن الغليون!) طبعاً الأخ مارك عندما دَوَّنَ كتابته لم يخطر في ذهنه أبداً بأني سأذهب بعد سنوات طويلة لأعيش في هولندا واتعلم لغتها واقرأ كتابته المكتوبة بالهولندية، التي هي أيضاً لغة بلجيكا الرسمية، نسيَ بعد عودته الى بلده، الناس الذين أستقبلوه، وذلك الفنان الشاب الذي إستدان وجمع كل مالديه ليحتفي به هو وأصدقاءه. تناسى (صديقي) المتحضر أمر الابداع العراقي ومكانته، لكنه بالتأكيد لم ينسَ رأس الباجة!!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram