طالب عبد العزيز
تأخرتُ ذات ليلة، خارج البيت، كنت قد لبيت دعوة أحد الاصدقاء المسرحيين، لمشاهدة مسرحية، للأسف كانت بائسة جداً، تعبوية بشكل فجٍّ ورخيصة، افقدتني إحساسي بالمسرح الجميل، الباهر. قلت لتكن وجهتي العشار، مركز المدينة، فذهبت. كانت المدينة شبه مهجورة، فقد خلت شوارعها من المارة، وسوى الكلاب لم ألتق أحداً، تعجّل أصحابُ المحال التجارية، فأفرغوا مخازنهم من علب الكارتون والاكياس في الأزقة أمام محالهم. القطط والفئران والكلاب وقليل من المتسولين، هي العلامة الدالة على الليل في العشار. المدينة تحتضر ليلاً.
كانت أعمال التبطين بالحجر والتسييج بالحديد، التي تقوم بها إحدى الشركات على جانبي نهر العشار قد بلغت في بعض الأمكنة نسب إنجاز متقدمة، هناك، فقد أكتمل الى حد ما، الممشى الجميل الذي يبدأ من جهة تمثال السياب وينتهي بجسر المقام، أعمدة نور جميلة ورصيف أجمل، أحسن اختياره، يقابله المتنزه ومدينة الالعاب في الجهة الثانية، نعم ، هناك بقايا من انقاض، حجر واسمنت وحديد لم ترفع بعد، لكن المكان أخذ طريقه على سكة الجمال، وقد بدا لمن عاينه في فترة الستينيات والسبعينيات أكثر جمالاً.
ولأن المطر كان خفيفاً، بما لا يُخشى منه، فقد أخذت كورنيش الشط، ماشياً حتى نهايته الجميلة، عند نقطة كازينو شط العرب، التي تقع على مدخل نهر الخورة، ولمن لا يعرف الأمكنة هذه أقول: بأنها تبدأ من مدخل نهر العشار وجسر المقام وتنتهي بمدخل نهر الخورة والجسر الايطالي، وهي قصيرة نسبياً، لا تتجاوز الـ 2 كلم، لكنها، بحق روح البصرة، وأجمل ما يمكن أن يعاينه المرؤ في المدينة، وهي، منذ عشرات السنين ملاذ البصريين بعامة، ولو تحرك ضمير الحكومة قليلاً، لو كانت تملك شيئاً من مدنية وتحضر، وعرفت معنى وأهمية المكان هذا، لخلقت منه واحداً من أجمل الأمكنة في العالم.
أتذكرُ أنني كنت أجلس في كازينو البدر مع زملاء أدباء ومثقفين، وكنا، إذا اشتد ظمأونا الى كأس من البيرة هُرعنا الى كازينو شط العرب، وإذا امتلأت جيوبنا بالدنانير دخلنا كازينة شط العرب، متلذذين بأطعمته ومقبلاته وبمشروبه الاسكوتلندي، وإذا أصطحبنا زوجاتنا وأولادنا فتحت كازينة المربد العائلي لنا ابوابها، أما كازينو المقصف فقد كانت ملاذاً لمن شدّهُ الحنين للقاء حبيبته، وتعلق باستار قلبه لرؤيتها، لكنْ لا مكان عنده، ولا أظنُّ بأنَّ عاشقين توقفا عند شجرة من أشجار الكورنيش العملاقة، ولم ينقشا اسميهما عميقاً على لحائها، لم يرسما ظلال قلبيهما على جذعها.
سيبقى البصري يندب حظه العاثر، يعيش في ماضي الأيام، غير الآتية، ما دامت حكومات الاسلام السياسي لا تتخذ من الحب والسلام والطمأنينة شرعة ومنهاجاً في عملها، وسيبقى البصري يشتمها، يشتمهم جميعاً، أحزاباً وكتلاً وجماعات، أولئك، الذين لم تحرّضهم غيرتُهم على إيجاد ملاذٍ واحدٍ لأرواح أبناء مدينتهم في الرقعة الصغيرة تلك، فيما كانت الأموال المستخرجة من أرضها، بمليارتها الطائلة، تذهب الى جيوبهم وجيوب زعاماتهم، لتفرغ في نوادي وملاهي بيروت وعمّان ودبي.