ستار كاووش
ينظر الناس عادة بإسترخاء الى اللوحات التي تملأ المتاحف والمعارض والقاعات المتخصصة، ينشغلون بها ويتتبعون التقنيات والأساليب وطرق المعالجات المختلفة. يعاينون حجومها ويشردون مع حركات الفُرَش التي سار بها الفنانون على سطوح القماشات، يتساءلون عن كمية وسمك الالوان هنا، وعن بساطة السطوح هناك. ليس هذا فقط، بل يتذكر أغلب الناس حياة الكثير من الفنانين وكيف إستلهموا المؤثرات، وإنطلقوا نحو النجاح بإساليبهم المختلفة، ومنغمسين بعوالمهم التي بنوها بعد تجارب ومحاولات وبحوث عديدة. هكذا ينشغل الناس عموماً، وسط تأثير النتائج والحضور الطاغي للأعمال الفنية، لكنهم ينسون في الغالب من أين جاءت هذه التحف، وأين وُلِدَتْ، كيف تبرعمت ونضجت لتصبح بهذا الشكل الذي نراه معلقاً على حائط المتحف؟ كيف قَطَعَتْ هذا الطريق الصعب، وهي تتحول من قطعة قماش ملفوفة على رول الى عمل فني جميل. كيف شقت طريقها بصمت وثقة لِتُعَلَّقَ في هذا الغاليري أو هذه الصالة. كيف اكتسبت حياتها وهي تقطع هذا المشوار بكل ما يحمله من صعوبات وتفاصيل، لتتكئ في النهاية على الجدار بكل أناقتها وحضورها الآسر، وهي تستقبلنا ببعض الغموض والخيال قائلة: أنا مرآة روح الفنان.
فهل فكرنا بالمرسم عند مشاهدتنا لهذه اللوحات؟ وهل خطر في خلدنا المكان الذي تصنع فيه هذه النفائس وتتطور بيد الفنان ويتصاعد جمالها بين أصابعه، لتتحول من مادة متاحة للجميع الى شيء ملهم ونادر ومليء بالتفرد؟ هذا المكان المليء بـأكواب نصف ممتلئة ومنسية من القهوة، وعلب الألوان المبعثرة، والطاولات المليئة برائحة الصباغة، وقصاصات لدراسات مرمية على الأرض، وإطارات فارغة وأدوات لا تخطر على بال أحد.
في أغلب دول العالم، تحولت مراسم الفنانين الكبار الى متاحف مهمة يزورها ملايين الناس، ناس يقطعون التذاكر لرؤية الأماكن التي رُسِمَتْ فيها أعمال أصبحت جزءاً من تاريخ الجمال والفن في العالم. هنا في أمستردام، رأيت الزاوية التي حَضَّرَ فيها ريمبرانت ألوانه ليرسم لوحته ذائعة الصيت (الحراسة الليلية)، وفي باريس مددتُ يدي غفلة من الحراس وأنا أتحسس الكرسي الذي جلس عليه ديلاكروا وهو يرسم نفسه، بهيئته القوية الواثقة التي تشبه أحد النمور التي ملأت لوحاته الرومانتيكية. وفي مرسم اندريه مورو عرفت أن الرمزية مرت بمراحل كثيرة قبل أن تصل الى غوغان، وعشرات المراسم الاخرى.
يكتب فان غوخ في إحدى رسائله لأخية تًيّو (أحب مرسمي كثيراً واعشقه مثلما يعشق بحار سفينته) فهل هناك تعبير أكثر تأثيراً من هذا؟ نعم، المرسم هو ملاذ الفنان، وهو المكان الذي تختبئ بين زواياه ربات الجمال والجنون، إنه المطبخ الذي يطبخ فيه الرسام وصفاته السحرية التي لا يعرف سرها أحد، ليتذوق الناس بعدها طعامه المدهش لكنهم بأي حال، لا يعرفون سر الوصفة التي قدمها لهم.
تختلف كثيراً طبيعة وتفاصيل المرسم من بلد لآخر، ففي هولندا مثلاً، يجب أن تطل نوافذ المرسم على جهة الشمال، كي لا يدخل ضوء الشمس الى المكان بشكل مباشر، وكذلك تكون السقوف عالية والشبابيك مرتفعة في الغالب. ويفضل الرسامون هنا المراسم التي تكون في الأماكن العالية أو في العليّة. وتقوم الكثير من البلديات هنا بتحويل بعض المدارس القديمة أو المصانع السابقة الى مراسم تُمنَح للفنانين، وتوجد مؤسسات خاصة تمنح المراسم وفق شروط معينة، كذلك هناك فكرة تحويل بعض السجون القديمة الى مراسم ومشاغل للفنانين كما حدث مع السجن القديم (بلوك هاوس)بمدينة ليواردن، حيث منحت البلدية الزنازين للفنانين، ومع مرور الوقت تحول السجن الـى مركز ثقافي كبير يشغله الكتاب والرسامون وورشات السيراميك والكثير من النشاطات الثقافية.
شخصياً أقضي أكثر من سبع ساعات يومياً في المرسم، أُهيء لمشاريعي الجديدة وأتفحص لوحاتي غير المكتملة، لأبدأ العمل وسط الألوان، يحيط بي ضوء الشمال وهو يتسلل من الخارج، والجنيات الملونة التي تختبىء خلف مسند الرسم، بيد أني قد تأخرت اليوم بالذهاب الى مرسمي لانشغالي بكتابة هذا العمود، لذا سأتوقف هنا تاركاً لكم ضوء محبتي، ساحباً خطواتي بهدوء نحو المرسم.