لطفية الدليمي
يعرف معظم المعنيين بتاريخ العلم والأديان تلك القرون الوسطى الصراعية التي شهدت في الغرب إحتراباً فكرياً رهيباً بين العلم في بواكيره الأولى وبين الأنساق اللاهوتية الممثّلة في المؤسسة الكنسية ، وقد خسر الكثير من العلماء حياتهم - أو حرّيتهم في أقلّ التقديرات - حينذاك، وتطلّب الأمر قروناً من النضال الفكري حتى بلغنا حالة حصل فيها - في الغرب بخاصة - نوع من الإعتراف بفصل الأدوار بين الأنساق اللاهوتية والأنساق العلمية، وتطوّر الأمر حتى بلغنا مرحلة الدولة المدنية المحكومة بقوانين إنسانيّة تُعلي الشأن البشريّ بعيداً عن التصوّرات الأخروية .
لاتخفى علينا أهمية العلم الجوهرية في جانبيه القيمي و النفعي منذ أن صار العلم قوّة أساسية في تطوير الحياة البشرية والمضي بها نحو مرتقيات أعلى ؛ و ماذا عن العلم باعتباره نسقاً ثقافياً ؟، أو لنجعل السؤال مُصاغاً بطريقة أكثر دقّة من الناحية المفاهيمية : ماذا عن البنية التحتية القيمية التي يساهم العلم في ترسيخها والإرتقاء بها وبخاصة في بيئتنا العربية ؟ تلك موضوعة معقّدة ومشتبكة، وهي موضع دراسة مبحث تأريخ العلم وفلسفته بالإضافة إلى أنثروبولوجيا العلم وعلم اجتماع المعرفة العلمية، ولستُ هنا في موضع تناول كلّ هذه الإشتباكات المعرفية بل سأعمل على إلقاء الضوء على موضوعة محدّدة في هذا المبحث الحيوي، وأعني بها القطيعة المفاهيمية بين العلم والأنساق اللاهوتية (والدين إجمالاً) .
ليس هناك من إمكانيّة للتعايش القسريّ إذن بين العلم واللاهوت، وهنا لابد من الإشارة إلى مسألتين في هذا الجانب : المسألة الأولى هي إمكانية بقاء كلّ من العلم واللاهوت ماكثاً في فضائه الخاص وضمن هياكله المؤسساتية من غير تأثير مباشر أو غير مباشر من جانب اللاهوت على المؤسّسة العلمية، والمسألة الثانية هي أنّ القول بوجود قطيعة معرفية بين العلم واللاهوت لاينبغي أن يفضي إلى نشوء أصولية لاهوتية من جانب تقابلها أصولية " علموية " من جانب آخر ، ونحن نعرف تماماً الأضرار المؤكدة التي تأتي بها الأصوليات في كلّ أشكالها .
قد يندفع البعض إلى المناداة بخطل فكرة القطيعة بين العلم واللاهوت ، ولن تفوتهم الإشارة إلى جهود لاتنفكّ تُبذل للتأكيد على وجود توافق (مهما كان نوعه أو شكله) بينهما ، وسيعلو صوت الفقهاء الذين يتفننون في ليّ عنق الظواهر العلمية وجعلها تتفق قسرياً مع المواضعات الدينية عبر تفعيل الجهاز الفقهي الذي يظنّ في نفسه القدرة على مواءمة الإنجازات العلمية مع النصوص الدينية من خلال إلتواءات لغوية ساذجة في تفسير النص الديني يترك الأصل وينغمر في مماحكات لغوية عقيمة، ولست في حاجة هنا لإيراد أمثلة في هذا الشأن .
العلم مبحث معرفي يختلف تماماً عن فضاء اللاهوت (الدين بعامة) ، والقطيعة بينهما هي قطيعة معرفية فحسب ؛ لكنّ هذا الأمر لايعدم إمكانية التعايش بينهما متى ماأصبح اللاهوت نسقاً ثقافياً مثل سائر الأنساق الثقافية التي لاتتحصّن وراء جدران القداسة المفترضة التي تحميها من إمكانية المساءلة والفحص والمراجعة من أجل أن تكون قادرة على إضافة قيمة إثرائية للحياة ، وكم أتمنى أن أرى مؤسساتنا الفقهية ترتقي للدور الذي تضطلع به (مؤسسة تمبلتون) في الغرب وهي تسعى لتشكيل رابطة جديدة بين العلم والدين باعتبارهما نسقين ثقافيين ضمن الأنساق البشرية بعيداً عن سطوة المقدّسات، وتقدم جوائزمهمة من بينها جوائز للشخصيات العالمية التي توائم بين الاثنين وبين الأديان ذاتها.