لطفية الدليمي
لطالما قرأنا كتباٌ تتصدى لفكرة ( موت الرأسمالية ) ومن بين هذه الكتب كتاب ( الرأسمالية تجدّد نفسها ) من تأليف الدكتور ( فؤاد مرسي ) .يمتاز هذا الكتاب بكونه دراسة مسحية معمقة لبدايات الرأسمالية وآثارها ومفاعيلها في حضارتنا الراهنة وقدرتها الفائقة على الإرتقاء بالرفاهية عبر تصنيع أسباب الترف المادي وتوفيرالمتع ووسائل البذخ اللامحدودة . يبتعد كتاب الدكتور فؤاد مرسي برصانته عن الشعبويات السائدة التي أشاعتها أحزاب اليسار الجديد بطريقة تُعلي من شأن الخطاب الآيديولوجي على حساب الحقائق الراسخة على أرض الواقع . فنقرأ في هذا الكتاب –على سبيل المثال - فصلاً عن ( الأزمات الدورية في الرأسمالية المعاصرة ) و نعرف منه بما لايقبل اللبس أنّ هذه الأزمات الدورية ليست أعراضاً سريرية منذرة باقتراب الموت بقدر ماهي ملامح ملازمة لطبيعة آليات إشتغال الرأسمالية . لاأظن أنّ عبارة ( موت الرأسمالية ) قد وهنت نبرتها يوماً خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضيات ، تأتي هذه النبرة في العادة بهيئة نذير يحمل نبوءة كمثل النبوءات الدينية حيث لايكون الفناء محض تلاشٍ فيزيائي لحالة واستبدالها بحالة أخرى بل يكون فناءَ عاما للبشرية مقترناً بحطام شامل وكامل لايُبقي شيئاً من معالم الحياة الإنسانية على وجه كوكب الأرض..
ليس الترويج لفكرة شعبوية عن موت الرأسمالية سوى فكرٍ رغائبي يتمنى أصحابه رؤية القلاع الرأسمالية تتهاوى مثلما تهاوت قبلها قلاع النظام الاشتراكي ، ولا ننسى في هذا السياق أن الشيوعية ذاتها تعرّضت لذات الهجمة النبوئية المنذرة بموت الشيوعية ( روايات أورويل مثالاً ) ، ثمّ تحققت هذه النبوءة بتهاوي الحصون التي كانت تمثل التجربة الاشتراكية نتيجة ظروف متضافرة كثيرة داخلية وخارجية أدت إلى انهيار المنظومة بكاملها.
هناك الكثير ممّا ينبغي التوقف عنده والتفكّر فيه : قد نتفق على سقوط الشيوعية كتطبيقات ؛ لكن الفكر الماركسي الذي يشكل الأرضية الآيديولوجية للدول الاشتراكية لايزال حياً، ولاتزال الأدبيات الماركسية تلقى رواجاً كبيرا في أنحاء عالمنا إلى الحدّ الذي باتت تصدر بشأنه دراسات حديثة كثيرة عن أمّهات الجامعات في البلدان الرأسمالية ذاتها. إذن ثمة فارق كبير بين جوهر الأفكار وبين تطبيقاتها والمؤسسات ( ومنها الحكومات ) القائمة على تلك التطبيقات ، والأمر يصحّ على الرأسمالية بقدر مايصحّ على الماركسية .
نعلم أنّ الرأسمالية ليست رأسمالية واحدة بل هي رأسماليات عدّة ؛ فالرأسمالية الأمريكية الأصولية المحكومة بغول الفردانية الجامحة هي غير الرأسمالية الألمانية أو الإسكندنافية المُرشّدة بموجّهات الديمقراطية الإجتماعية ، وهذه غير الرأسمالية اليابانية المحكومة باعتبارات التقاليد اليابانية الصارمة، ولعلّ المثال الأكثر تطرفاً بين الرأسماليات المعاصرة هو نموذج الرأسمالية الصينية التي تجاوزت التلازم القسري بين الليبرالية السياسية والإقتصاد الحرّ ونجحت في توظيف الآليات الرأسمالية بمعزل عن إسقاطاتها السياسية وأحرزت إنعطافات ثورية طبقاً لقاعدة الرئيس دينغ زياو بنغ القائلة ( ليس المهمّ أن يكون القطّ أبيضَ أو أسودَ بل مايهمّنا فيه أن يصيد الفئران !! ) ؛ فهل ستموت هذه الرأسماليات كلها دفعة واحدة ؟ وإذا ماماتت بعضها فأيها ستموت قبل الأخريات؟
من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة تمر بها ؛ إنما علينا أن نتذكر أمراً : إن ليس كلّ الرأسماليين أشراراً ، فبينهم أشخاص تعاملوا مع المال بنبل في سبيل القضايا الانسانية وخدمة التعليم قلما إرتقى إلى صنيعهم دعاة موت الرأسمالية ومثالنا الأقرب بيل غيتس الذي ستخلد مآثره أكثر من أي صراع أيديولوجي.