طالب عبد العزيز
ليس الوضوحُ غايتي، كلُّ بينٍّ مادةٌ في الفناء، وكلُّ سِترٍ ينطوي الى الابد وجهةٌ في الغموض. الجهلُ آفةُ العِلم !! مَن قال ذلك ؟ أمسِ، نهش الندمُ قلبي، حين أخذتني قدمي الى نهاية في السباخِ، حيث اليقين قاطع في التراب هناك، ما شئت لأبلغها لولا الحكمة الواهنة تلك. لا تلمس يدي بموعظتك أيّها الناسك، دعني أتوهمكَ قاسياً، صورةً في الاحباط، لا أريد تذكرَ ما قلته لي عن البدايات، كلُّ بداية تنتهي، وكل نهاية معرفة، وأنا رهين جهلي ومعرفتي في آن، لا أريد صورة ما أحلم به وأسعى اليه، فلا تضع يدك فوق دفتري أيها الشيخ الاستاذ، كل لوح معلق على حائطك يشيرالى يقين هو صورة في الاحباط لدي، حقل في التيه والخذلان.
دعيني أتوهمكِ قاسيةً أيتها السماءُ البعيدة، أيّها الربُّ، أنت يا من ابتكرت الاصلاب والسلالات، اتركني وحيداً في قائمة مريديك، كلُّ اسمٍ تدرجه، أعلى أو أسفل إسمي يضايقني، ولا تتحدث عن الشعر معي أيّها الشاعر، أنت يامن طفقت أسماؤك الآفاق، أخشى أن أصدقك فتهوي في فاضح من الضوء. إيها النجار، يا من تسوّي بمطارقك ومقاشطك ومن الخشب الاسرة والنعوش، لا تطلعني على شكل النائم الذي يصحو في سريرك قبل شكل الذي لن يصحو فيه ، وأنت، يا من ساويت بين الطابوق والمِلاط، أيها البناء، هلا أطلعتني على صورة الغياب في غرفات ما بنيت قبل صورة الحضور في ما سينهدم، وكيف تُوارى الاجساد الطائعة، كيف تنبعث ؟
وحدك أيّها الفلاح، يامن تغيبت البارحة وقبلها، واختفيت الأمس وبعده، أثق بحجة غيابك وحضورك، سواء، أسقط سقف كوخك عليك أم لم يسقط بعد، هائنتذا، تعبرني الى الفسيل الماثل في الظلمة، تحمل منجلك، يتبعك حشد الظلال القادم منك، إني أتقلب في السعف والعراجين، أتمرأى في السواقي البعيدات، لكنك لا تراني، إني أسمع صوت منجلك وأنت تشحذه، أتبع حبل صبرك الى النهر، أقتفي أثر بقراتك حتى مقيل الحلم.. وهناك، على صعيد يقيني بوجودك وغيابك، بين الأزرق الشذري من التذكر والاصفر الكريه من النسيان، أريدك أن تصلبني في جذع الوضوح مثلما صلبتني بالامس في جذع الغموض ، إني أنوء بحمل ما لا يقين لي به، ما لا يتبدّى في معنى، ما لا يتشكل في سطر وكتاب. كل معلوم منك فاسدٌ، فابق معي في صنعة ما نجهل ونعلم، وحدك من أريده، من يعيد ترتيب الاشياء التي سقطت ولم أرها، أني أدركها حسب، وتلك غايتي.
تقولُ لي: ما انتفاعك بالعطر وأنت تسكن السباخ؟ ولماذا، لا تترك المرآة مفردة امام الشمس والريح ؟ لمن تنظر في وجهك هنا؟ وهل بين الوحوش من يحفل بك معطراً، مكتحلاً؟ فأقول : في الجسد روحٌ توّاقة، وقلبٌ يعشق، وعين لا تمل.. أنا آخر بي. يريدني معطراً، يحاسبني على كل شعرة بيضاء في حاجبي، فأطيعه، لا السباخ ولا الظلمة تحجبه، يسميني بأسمائي كلها، فيقول: الغريب، النائي، الأميّ، المجهول، ذا اليد الواهنة، الرأس الاشيب، ابن المعاني الغامضة.. وأطيعه. يستدل عليَّ بقارورة العطر ساعة أرمي بها فارغة، وعبر كِسر المرايا يهتدي اليّ، هو من يسمعني نداءه كلما ران صمت، وهو من يأخذ بيد ساعة أنفر وأتضايق، أنا خارجه لا حياة لدي، أنا مجهول عنده، أنا معلوم فيه.