لطفية الدليمي
اختفت من أساليب المخاطبة في مجتمعنا العراقي ألقاب جميلة كنا نتداولها كالاستاذة والست والاستاذ والسيدة والآنسة وهي ألقاب استخدمناها طوال العقود الماضيات مصحوبة بمظاهر الإحترام عند إلقاء التحية أوالتعامل اليومي في ميادين العمل ،واستبدلت اليوم بالألقاب ذات المدلولات الدينية ؛ فتغيرت العلاقات بين المواطنين بناء على التراتبية التي تقتضيها الألقاب الجديدة المدّعاة ، فالسيدة الكبيرة صارت تخاطب بـ ( حجية ) وإن كانت سيدة عصرية تحمل الدكتوراه في علم الاجتماع أو علوم الحياة ، وينادى بكلمة ( حجي) كل رجل كهل أو مسن في مجتمع متعدد الديانات والأعراق وإن كان مسيحياً أومندائياً أو إيزيدياً مع كونه بروفيسوراً بالفيزياء أو عالماً بالذرة أو أستاذاً في النقد الحديث أو مختصاً بعلم الفلك ، وتفاقم مع هذا التدين الاستعراضي انحطاط جائح في السلوك العام بخاصة إزاء النساء ، وتداول الشباب ألقاباً سوقية أطلقوها على الآنسات الجميلات لاأعلم من أين استنبطوها ولكنها تشير في مجملها الى انعدام الاحترام وغياب الذوق واعتبار الفتاة أو السيدة محض سلعة للتداول أو فريسة معرضة للقنص .
عُرف مجتمعنا العراقي سابقاً بالايمان الروحاني السمح المصحوب بالنزاهة والأمانة ونظافة اليد وغوث المحتاج ونبذ المفسد والمسيئ واحترام الآخرين ؛ ثم جرى بالتدريج استبدال ذلك الايمان الروحاني الهادئ بالتدين الطقوسي المظهري الصخّاب، والتفاخر بإقامة الشعائر كطريقة لاثبات الوجود ، فتغيرت جرّاء ذلك أشياء كثيرة في مجتمع مضطرب.
أفرز مجتمع التدين الاستعراضي ظواهر أخرى في مقدمتها استغلال الألقاب الدينية الأخرى ذات التراتبية الانتسابية التي تعطي للرجال حق السيادة وللنساء حق التعالي على نساء البلاد، وأيقظت الألقاب المستحدثة لدى بعض الأفراد الخاملين نزعة الزهو بقيمة اعتبارية متوهمة بعد أن ضمنوا الحصول على المكانة الاجتماعية بالثروة المكتسبة من الرشى التي أمست عرفاً متفقاً عليه في التعاملات الرسمية والاقتصادية ؛ فعوضتهم الالقاب والًموال المنهوبة عن نقص في المكانة والتعليم وأسبغت عليهم عنجهية بائسة ورضا زائفاً دفعهم للتفاخر المعلن إزاء من يعدونهم أدنى منهم ثراء ومكانة بحكم انتسابهم لحزب ديني أو منظمة ما . صرنا نرى على سبيل المثال امرأة من المهووسات بعمليات التجميل المفرطة تتبجح بلقب ( علوية ) وتعزز به مكانتها الاجتماعية وترسخ عبره وضعها الوظيفي فيمنحها اللقب الحق في احتلال منصب متقدم في مؤسستها متخطية - بحكم نسب أو لقب مُدَّعى - الأشخاص الأكفاء ممن لايحملون ألقاب التزكية الانتسابية التي استغلها الكثيرون لنيل المغانم ؛ فقد تكاثر هؤلاء الذين يدعون الانتساب الى جذر شرفي مقدس وانحصرت أدوات المشعوذ باصطناع بقعة قاتمة على الجبين يوهم بها البسطاء بأنها سيماء التعبد والسجود جاهلاً أن سيماء المؤمن الروحاني تتمثل بالزهد والأمانة والسلوك القويم لاببقعة قاتمة، وتعددت مهمات هؤلاء الدجالين بين تيسير أمور الواسطات وتعيين من لا كفاءة لهم في الوزارات والمؤسسات مقابل تسعيرة محددة لكل وظيفة مما عزز مكانتهم المقدسة ورفع من شأن كراماتهم مدفوعة الثمن.
مقابل هؤلاء المشعوذين المحترفين تتبارى الأحزاب الدينية الممثلة للطوائف المختلفة في الحصول على مواقع مرموقة في الوزارات السيادية لأعضائها بطريقة بيع وشراء تلك المناصب بتسعيرة محددة لكل موقع ؛ فنرى وزراء ومدراء عامين جهلة و قناصل ووزراء مفوضين وسفراء بشهادات مزورة لايحملون مؤهلات تتيح لهم إشغال مواقع دبلوماسية أو قيادية أو سيادية سوى لقب ديني أو صك انتماء لحزب إسلامي متشدّد مما أوصل البلاد إلى أن تدرج في موقع أكثر البلدان فساداً في العالم .