اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: حين يتحول الوطن الى مربع

باليت المدى: حين يتحول الوطن الى مربع

نشر في: 22 ديسمبر, 2018: 07:26 م

 ستار كاووش

يحمل فن النحت بين طياته الكثير من المشقة والصعوبات، مقارنة بفن الرسم، وذلك يعود لطبيعة المواد المستخدمة، وما تمر به الأعمال النحتية من مراحل كي تحصل على هيئتها النهائية، وكذلك التكلفة العالية لبعض المواد مثل البرونز، والتي يصاحبها ندرة وجود المصاهر، وربما يضاف الى ذلك، قلة جاذبية وشعبية النحت بين المتلقين مقارنة بالرسم، لأنه بحاجة الى مكان وفضاء مناسب، بينما يُعَلَّقُ الرسم على أي جدار متاح سواء في البيت أو المكتب، وحتى في الغاليري أو المتحف. لهذه الاسباب وغيرها أصبحت معارض النحت قليلة، وربما نادرة. لذلك حين يقام معرض لفنان بمكانة مكي حسين، فهي مناسبة للاحتفاء والاحتفال بمعرض فني مهم ونادر.
إنتَظَرَ مكي حسين -بسبب ظروفه- سنوات طويلة، ليقدم لنا رؤيته التي ألبسها حلّة من البرونز الممزوج بالمشاعر والأحلام والذكريات، وهو ينظر بعينٍ نحو حدائق غربته، ويتطلع بعينه الأخرى نحو بلاده البعيدة التي تركها هناك، وبين هذه وتلك، تنشغل يديه بوضع لمساتها الأخيرة على أعمال معرضه الذي أقيم مؤخراً في مدينة (غوتنغن) الألمانية، حيث عرض مجموعة من الأعمال المذهلة في صياغاتها وتأثيرها ومعالجاتها، وحنينها لبلاد صارت بعيدة عن أقدام الفنان وروحه. نتطلع في هذا المعرض لحكاية الانسان المستلب والمنهك والمحاصر، وهنا يسعيد مكي مفردة ابتكرها ووظفها في أعمال عديدة، حتى صارت مرادفه له ولفنه ولرمزية أعماله عبر سنوات طويلة، وأقصد شكل المربع أو الاطار الذي استثمره وقدمه في منحوتات تعتبر في طليعة الفن العراقي من حيث الأصالة والتكوين والاسلوب والتقنيات والتعبير. هكذا يحمل مكي الوطن في حقائبة ليحوله الى مربع يحصّن به نفسه ويحيط به شخصياته التي غطاها بحنينه ومزجها بمواقفه التي صَبَّها مع قوالب البرونز، حتى لنشعر بأن ثمة ريح تشد الأعمال الى جهات مختلفة وتجعل شخصياته مثل أشجار تترنح وهي تمد أغصانها نحو الخلاص، ريح تحيل الاشكال الى رايات ترفرف في فضاء المعرض، بعد أن أصبح البرونز مادة مطواعة بيد فنان متمكن من أدواته.
في واحد من أعماله المؤثرة نرى كيف ينحدر الانسان نحو الهاوية، بينما ثلاثة أشخاص يراقبون سقوطه من بعيد، ويمضون في طريقهم لا يلوون على شيء مثل أشباح نحيفة وغامضة، تشتد نحافتها كلما أَطِلنا فيها النظر. وفي عمل آخر يتسلقُ مجموعة أشخاص على أكتاف بعضهم، ليكوِّنوا في النهاية مايشبه الصليب كمحاولة للخلاص. وفي قطعة أخرى نرى بقايا أو حطام شخصيات تمد أذرعها وأجسادها نحو الجانب وكأنها تصدُّ هجوماً أو ربما هاجساً ونذيراً بالخطر، بينما ينهض أحد الشخصيات منبثقاً ورافعاً يديه نحو الأعلى ليوازن الأشكال ويجعل التعبير أكثر تأثيراً والتكوين أشد إكتمالاً.
أما الأعمال التي وظَّفَ فيها شكل الإطار أو المربع فهي متنوعة بتأثيراتها وحلولها التشكيلية، فمرة نرى الإطار (الوطن) مكسوراً تمسكُ به مجموعة من الايدي التي تشير الى جهات عديدة، بينما تتطاول راية لتشق التكوين وترتفع الى أعلى. وفي عمل آخر يحتمي شخص خلف المربع ويلوذ به، فيخفي وجهه خلف أحد أضلاعه، وهو إشارة رمزية الى البيت الذي تركه بعيداً، وهنا يرفع ذات الشخص يده اليمين بطريقة احتجاجبة محاولاً ايقاف الصواريخ التي اخترقت التكوين من الاعلى. ومنحوتة أخرى يظهر فيها شخصان يجلسان على حافة الاطار، يحركان ايديهما بطريقة تعبيرية توحي بالحيرة وإثارة الشكوك والأسئلة، بينما ينتصب شخص ثالث بينهما، كأنه شاهد على ما حدث ويحدث. وفي واحد من أهم اعمال المعرض، يظهر شخص يحاول التقدم بصعوبة الى الامام، وهو يسير على مرتفع ساحباً خطاه ضد التيار، بينما تتطاير منه نحو الخلف مجموعة من الإطارات، كأنها أوراق تاريخ هذا الأنسان ودفاتره التي وَدَّعها خلفه، فصارت تبتعد عنه بقوة خفية الى الوراء، بينما يحاول هو المضي إلى الأمام بلا بيت ولا حقيبة.
تحية للرائي مكي حسين الذي إبتعدت عنه نوافذ الوطن، فإستعادها بنوافذ جديدة في الغربة، فهو رغم الألم والصعاب التي مرَّ بها، بقي واقفاً، ينظر من بعيد نحو البلاد، كما تنظر تماثيله الآن في عيون الغرباء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram