طالب عبد العزيز
ما الذي يمكنني أنْ أكتبه في الساعات الأخيرة، التي ما زالت قابعة في خُرْجِ العام، الذي سيبلغ نهايته غداً ؟ ما الذي يمنحني التوازن في يوم مضطرب، متأرجح بين النهاية والبداية؟ أنا المسكون بهاجس الوصول والبقاء،وبحقيقة الوجود وكذبة الإغواء، الذي يشكل القلق والخوف نصف دائرة حياته، ويلتهم التردد والخور نصفها الثاني، الذي لم يكتب قصيدة منذ أسابيع طويلة، تهزمه إرادته، وتسلبُ همَّته إراداتُ غيره.
لا، لستُ أنا حسبْ، إنه برنار نويل أيضاً، فهو الذي يقول: "إنكَ ما تفعلُه، لكنْ مَنْ انت بمجرّد انْ يٌفعلَ الفِعّلُ ؟ ... من يتكلمُ يستجمعُ باطنه، وماذا بعد ؟ انا مجرّدُ شخصٍ يقضي الوقت. ليس في الامر فلسفة ما، إنما هي أسئلة، نعيد تركيبها في مثل الساعات هذه، من كل عام، نعيد شجرة عيد الميلاد الى الزاوية، التي كانت فيها في العام الماضي، نُصلح من شأنها، نستبدل المصابيح المطفأة والكرات الثلجية فيها، ثم نبحث في هواتفنا عن أغنية جديدة، لم نسمعها من قبل. الاطفال يتحلقون حول الشجرة، التي ستبدو جديدة في أعينهم، ثم نجلس نحن، حاملي الهواجس، نصغي للزمن القابع خلف الباب الموصدة، هناك، حيث الريح تهبُّ في الخارج باردةً، أحدُهم يقرع الجرس، لا، ليس الذي في الشجرة.
لا تبدو زجاجة النبيذ جديدةً، الجديدُ هي الطاولة، التي وضعت عليه، أهملت المرأة خزن الطاولة القديمة، غبار وشمس العام الماضي جعلتها متسخة كالحة، فاخرجتها مع النفايات الى الشارع، كذلك فعلت بالسِّجادة، التي كانت تحت اقدامنا قبل سنتين. إنما، نحاول ان لا نكون السِّجادة القديمة أو الطاولة الجديدة، التي ستتسخ وتكلح في العام القادم، هناك من هو جاهز دائماً ليقذف بنا خارج البيت. ومن بين الاوراق، التي تؤثث أصيص الزهر، أنعمتُ النظر بالمكواة، التي ظلت مؤدبةً لقمصاني طوال عام، كانت قد جعلتها متناسقةً، وناعمةً، وأنيقةً ايضاً، لكنني، أفكر بما سلبته من القمصان تلك، بتردادها على النسيج الابيض والازرق والبني، هي التي ظلت تروح وتجيئ ساخنة عليها طوال عام كامل.
ولا أبدو في الحديقة غيري، فأنا هنا منذ اعوام كثيرة، اتردد على المصطبة الخشب، التي لم يزحزحها أحد منذ سنوات، أحصي مسامير مقعدها، مثلما أحصي فناجين القهوة، التي تجلبها لي زوجة ابني، شجر كثير بات يشاركني فضاء مجلسي اليومي هذا. السعف يتطاول وأنا شخص لا يجرؤ على إيذاء سعفة، وهكذا، ظل يشتجرُ من حولي نخل وشجر كثير، وها أنا أتفادى النهايات الإبرية الى هناك، يقول ابني: لنزحزح المصطبة أو لنشذب الشجر. فأرفض. اعلم انَّ شجراً آخر سينمو، ويطول ويطال المكان، وأنَّ المصطبة ستظل تبحث في المكان الجديد عن ما يطوّقها من الخضرة والظلال، في متوالية لا أنفك مستأنساً بها .
عَتِقَ البلاط، الذي يصل البيت بدارة الخطار، بفعل الأقدام والأحذية التي تتردد عليه، وتهدَّل سياجُ الممرالضيق، الذي سورتُه بالتوت الاحمر وبالياسمين، أثقلت المصابيحُ الثلجية غصونه اليابسات، كلَّ شتاء تموت الشجيرات الواهنة هذه، ثم تعاود دورة حياتها ثانية، لقد دأبت على خداعي منذ أنْ غرستها قبل ستين عاماً، أنا، صنيع لعبتها هذه معي، اليوم أحتفل باليوم الأخير لموتها مثلما أحتفلُ باليوم الأول من حياتها.