د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
طيلة أشهر عديدة، كنت قد نشرت في صفحة (ثقافة المدى)، وفي زاوية "عمارة... عمارة"، مقالات عن منتج العمارة العراقية الحديثة. وأزعم بأني غطيت في تلك الزاوية، كثيراً من نتاج المعماريين العراقيين المعاصريين، الذين ساهموا في خلق ذلك المنتج الإبداعي، هو الذي اُعتبر احد تجليات الثقافة العراقية وواحد من تنويعاتها الأسلوبية.
الآن، وبموافقة محرر الصفحة الثقافية في المدى صديقي علاء المفرجي، وقبوله لمقترحي بفتح "صفحة" جديدة آخرى في النشر المعماري، متممة لأهداف الزاوية السابقة، باسم "عمارات"، تتعاطى مع منتج العمارة العالمية، وخصوصاً ذلك المنتج المصمم من قبل معماريين معروفين على نطاق دولي، وينطوي على مقاربات تصميمية ذات شأن في المشهد المعماري وخطابه. وبهذا فان "عمارات" سوف لم تقتصر على المنتج المحلي فقط. آملين بأن نصوص هذه الزاوية، التى ستنشر، هنا، لاحقاً، ستثير اهتمام قراء المدى ولاسيما متابعي صفحتها الثقافية.
وستبدأ "عمارات"، في حلقتها الأولى، بتناول أحد تصاميم "معمارتنا" الفذة: زهاء حديد، الذي نُفذ في الدانمرك، وسيكون عنوان الحلقة:
<الازاحة>... معمارياً
قد لا يكون المبنى الدانمركي الخاص بتوسعة متحف "أودغوبغو" Ordrupgaard، الواقع في إحدى ضواحي العاصمة الدانمركية "كوبنهاغن" معروفاً للكثيرين من متابعي زهاء حديد ومناصري مقاربتها التصميمية المميزة. لكنه يبقى يحتفظ بأهمية عالية، رسختها لغة التصميم المبهرة والطليعية في آن! وهذه الأهمية، يستقيها المبنى، من "تاريخية" التصميم، التى تعود الى عام 2001، حيث بدأت تظهر، وقتذاك، تصاميم زهاء حديد في المشهد المعماري، ويتكرس حضورها في البيئة المبنية، بعد فترة طويلة من الاقصاء والنكران ومعاناة مرحلة "التصميم الورقي" وهواجسه المقلقة التى مرتّ بها زهاء واستمرت سنين عديدة. فقبل هذه المرحلة كان الكثير من تصاميم المعمارة، ينظر إليها نظرة سلبية، مغلفة بنوع من عدم الجدية والاستهزاء، الأمر الذي أفضى الى رفض العديد من تصاميمها، نظراً لجرأة لغتها المعمارية غير المسبوقة، وهيئتها التي لا مثيل لها! لكن هذا الحال شرع في التحول والتغيير، في العقد الأخير من القرن العشرين، وحينها شهدت البيئة المبنية للعديد من مدن العالم حضوراً لافتاً لتصاميم زهاء ومكتبها الذي أصبح يستقطب العديد من المعماريين الأكفاء، المسلحين بقدرات مهنية عالية ولاسيما المؤهلات الرقمية، التي باستطاعتها اجتراح عوالم "افتراضية"، يمكن بها إثراء الواقع المعاش!
كان برنامج التصميم لتوسعة متحف "اودغوبغو" يتضمن إضافة مساحة جديدة الى فراغات المتحف الاصلي القديم قٌدرت بـ 1150 متراً مربعاً، وهي ضعف الفضاءات الأصلية، وتتضمن فضاءات عرض مع تصميم "كافيتيريا" مع ملحقاتها خاصة برواد المتحف. جدير بالذكر أن متحف "اودغوبغو" يحتوي على أفضل مجموعة من الفن الفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين في عموم اسكندينافيا، تتمثل في لوحات "ديلاكروا" و "كورو" و" كوريه" و" ديغا" و "رينوار" و" مونيه" و" سيزان" و "غوغان" و "ماتيس" وغيرهم من الفنانين الفرنسيين بالإضافة الى أعمال بعض الفنانين الدانمركيين . ومبنى المتحف الأصلي كان قد شُيد كـ "دارة" فخمة لسكن وسيط البورصة الغني وجامع اللوحات الفنية " وليم هانسين" (1868 – 1936) مع زوجته "هيني ينسين". وقد شيد في سنة 1917 من الآجر الجميل مع أعمال خشبية بارعة. وفي سنة 1981، تحوّلت ملكية المبنى من ورثة الزوجين الى ملكية الدولة الدانمركية، التي ضمته الى قائمة متاحف الدولة العامة الفنية.
تتعاطى "زهاء حديد" مع إشكالية تصميم التوسعة، بصيغة لافتة ومبهرة في آن. إنها تتوق لأن تكون مقاربتها التصميمية المميزة حاضرة في لغة عمارة المبنى. بيد إنها تسعى، في ذات الوقت، وراء أن يكون ذلك الحضور قوياً وحتى مبالغاً فيه. فهي تعرف أن "ثيمة" التصميم المنطوية على موضوعة رئيسية واحدة، تتطلب منها ان تكون "ضربة" التكوين المجترح، مقتصرة على نوعية صياغة الشكل العام للتوسعة، وما يترتب عنها من إبهار المتلقي و"انتزاع" انتباهه! من هنا، يمكن فهم محاولتها في توظيف "الإزاحة" Displacement بمفهومها التفكيكي لبلوغ غايتها. وهذا المفهوم معني، أساساً، في قطيعة واضحة مع الأساليب المعمارية المعتمدة في جوهرها على إظهار المقابلات الثنائية، والرفع من قيمتها عالياً. نحن اذاً، هنا، إزاء محاولة مبدعة من المعمارة الطليعية، في تأكيد ما يسمى باعادة التفكير Rethinking، واللجوء نحو ما يدعى بـ "القراءة الخاطئة" Misreading، توطئة لاجتراح "فورم" تصميمي، يكون زاخراً بالقطيعة مع جميع المفاهيم المعتادة، والشائعة في المشهد. بمعنى آخر يتعين أن تكون ثمة "إزاحة" في نوعية المفاهيم الحاكمة للمنتج المعماري سابقاً، وما يُترب عن ذلك من تغيير في المعاني والافكار، لكن حضور الازاحة هنا، في عملية التصميم لا تعني حتماً محو أوالغاء تلك المعاني. وبما أن "المعنى يتطلب بالضرورة، الغياب من خلال الغائب المشار اليه (وفقا لاطروحة <بيتر ايزنمان> (1932)، أحد أبرز المعماريين التفكيكيين)، فان مفهوم العمارة المزاحة يتعين أن يكون، في الوقت ذاته، حضوراً وغياباً"!
عندما شاهدت تخطيط "السكيج" Sketch الأولي، المشغول من قبل "زهاء" لتصميم توسعة المتحف، دُهشت لنوعية المقاربة التي تشتغل عليها المعمارة للوصول الى اهدافها. ثمة خطوط منحنية متشابكة ومتداخلة بعضها في البعض الآخر، تشي، كما هو مفترض، بـ "فورم" التوسعة المستقبلي. وهذه الانحناءات الكثيرة، المغرمة بها المعمارة (بالضد من توظيفات الخطوط المستقيمة التى لا تطيقها زهاء، وتضعها خارج ذائقتها الجمالية!) سيدعم حضورها القوي في التوسعة، في تبيان وترسيخ خصوصية مقاربة المعمارة المجتهدة.
تشير زهاء حديد، بأن عمارة توسعة متحف "اودغوبغو" تنتمي الى <..عائلة مشاريع تسعى لدمج الفضاء التصميمي للمبنى مع أحداث تصاميم الفضاءات الخارجية ومفرداتها، وفي حالة "اودغوبغو" فإنه يتعين أن يكون جزءاً من الحديقة الواسعة التي تجاور المتحف. ويبقى استخدام المنحنيات بكثرة مع الفتحات الزجاجية الواسعة، بمثابة تأكيد لخلق تكوين متماسك يرمي لزيادة تشديد حضور التوسعة كمفردة تصميمية ضمن فعالية تصاميم الفضاء الخارجي Landscape . وإذ يظهر المبنى الجديد، في حالة مدّ وجزر بالنسبة للحديقة التي تجاوره، فإن الأخيرة تتبدى وتشاهد، عبر نقاط كثيرة من داخل المبنى بالوقت عينه!>
يمكن للمرء بنظرة سريعة وشاملة أن يحدد، بسهولة، فضاءات المبنى الجديد. فمنحنيات "الكافيتيريا" التي وضعت في أقصى طرف التوسعة بالقرب من الحديقة، بلونها الأبيض الساطع، بدت أرضيتها المرتفعة قليلاً، تشكل مع جدرانها وسقفها العالي، حالة من استمرارية بصرية تجمع أسطح مفرداتها الثلاث. وثمة ممر "مرقاتي" Ramped بميل خفيف يصل الزائر الى فضاءات التوسعة الرئيسة وهي خمس قاعات، إحداهما فسيحة والأربع الآخرى صغيرة نوعا ما، وكلها موقعة وراء جدار ، في جانب بعيد عن الحديقة.
لم تترك زهاء ، مع شريكها المعمار "باترك شوماخر" (الذي عمل معها على تصاميم التوسعة)، شاردة أو واردة فيما يخص جزئيات التصمييم؛ جاعلين نصب عيونهم وتحت إشرافهم المباشر إشغال عمال التنفيذ. فهم يدركون جيداً بان الوصول الى شكل الفورم المصمم وفقا لرؤاهم، يتطلب منهم انتباهاً دقيقاً في عملية تحويل الفكرة التصميمة الى واقع مشيد. ذلك لأن كل منحنى في أشكال تفاصيل المبنى يمتلك هندسته الخاصة به. كما أن الخرسانة المنفذ بها المبنى، والتى يتعين أن يكون أسلوب صب أسطحها صقيلاً واملساً، بعيداً عن الخشونة، كانت زهاء تطلب أيضاً أن تكون أسطح ذلك الصب تنطوي على تضاريس تشبه "ملمس" العمارة ذاتها! وقد أدى الحرص الكبير للوصول الى نتائج نهائية Finishing دقيقة جداً للمبنى الذي كلف وقتها، حوالي 4.5 مليون جنيه استرليني ، أن أُحيلت أعمال بعض التفاصيل لتنفيذها في فنلندا كمقاطع زجاج قسم من الفتحات في واجهة المبنى.
عندما أقف أمام مبنى توسعة متحف "اودغوبغو" (وأنا أزور المبنى باستمرار، فهو غير بعيد عن مكان سكناي، مستمتعاً برؤية عمارته الاستثنائية، وملتقطاً صوراً له في ظروف حالات طقس متغير)، أشعر بقيمة الاجتهاد التصميمي الذي اجترحته المعمارة الشهيرة. فعلى الرغم من تواضع أبعاد المبنى، ومحدودية وظائفه، استطاعت زهاء أن تقدم لنا مفهوماً خاصاً عن معنى "الإزاحة"، وأن تبين بوضوح كل ما يترتب عنها من نتائج، عندما تكون مثل تلك "الاداة" في أيدي مصمم بارع مثل زهاء حديد. ثمة تغيير جذري في إدراك مفهوم الفضاء المعماري، تسعى المعمارة لتكريسه في المشهد المرئي، جنباً الى جنب التعاطي مع دلالات شكل المبنى المبتدع، والنزوع لجعله يعمل، بكفاءة، كمفردة هامة ضمن مفردات تصميم الفضاءات الخارجية، فضلاً على الاشتغال مع ما يعرف بـ "التلاعب" التكويني الذي تجيده زهاء، فيما يخص تجاور أسطح الجدران الصلدة مع نوعية الفتحات الزجاجية التي ينطوي عليها "فورم" المبنى، كل ذلك يجعل من هيئة عمارة التوسعة الناجزة، هيئة مثيرة، ويجعل من نوعية لغة عمارتها المبهرة، حدثاً معمارياً غير مسبوق!
و "زهاء حديد" (1950 -1916)- معمارة المبنى، ولدت في بغداد / العراق في 31 اكتوبر1950، وحصلت على شهادة الليسانس من الجامعة الامريكية في بيروت، بفرع الرياضيات عام 1971. لكنها درست العمارة لاحقاً، في مدرسة الجمعية المعمارية بلندن/ المملكة المتحدة، وتخرجت منها عام 1977، وفي ذات السنة عينت كمعيدة في المدرسة التى تخرجت منها. ولاحقاً اصبحت استاذة زائرة في العديد من الجامعات المرموقة: الاوروبية والاميركية منها. صممت زهاء مشاريع كثيرة في بريطانيا وخارجها، واحصيت البلدان التى صممت المعمارة مشاريع لها بحوالي 45 دولة، بضمنها وطنها الاصلي العراق، حيث صممت له مبنى البنك المركزي العراقي سنة 2012. حازت على جوائز مرموقة بضمنها جائزة "بريتزكر سنة 2004.
توفيت إثر نوبة قلبية في مدينة ميامي/ فلوريدا – الولايات المتحدة في 31 آذار سنة 2016.