TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: نفائس فكرية وإبداعية في قاع الفيس بوك

قناديل: نفائس فكرية وإبداعية في قاع الفيس بوك

نشر في: 19 يناير, 2019: 07:17 م

 لطفية الدليمي

لاشكَ أنّ وسائل التواصل الإجتماعيّ شكّلت إنعطافة ثورية غير مسبوقة على كلّ الجبهات الإنسانية ، وربّما تكون الآثار السايكولوجية لهذه الإنعطافة (التواصلية الرقمية) هي الأخطر والأبرز والأكثر تأثيراً في الكائنات البشرية؛ فقد أتاحت مواقع التواصل الإجتماعي- وبخاصة الفيسبوك الأكثر شيوعاً في المنطقة العربية - للفرد العربي على وجه التخصيص نافذة مكّنته من الإطلالة على العالم والتعبير عمّا يجول بخاطره وجَعْلِهِ مكشوفاً أمام العالم بكبسة زرّ يسيرة.
إنّ هذا الإنكشاف الفرديّ للأفكار الشخصية أمام العالم موضوعة إشكالية عظيمة التأثير وهي موضع مساءلة بحثية دؤوبة ودراسات إستقصائية مكثفة على مستوى العالم بأكمله لمعرفة الكيفية التي تتغاير بها أنماط التفكير البشري أزاء الإستجابات اللحظية للأفكار المعروضة على الملأ؛ لكن ثمّة بعض المشتركات لدى كلّ الفيسبوكيين في العالم صارت بمثابة مدوّنة أعراف للنشر الفيسبوكي ، والجوهر في تلك الأعراف هو أنّ منصة التواصل الفيسبوكية ينبغي أن تكون شيئاً أكبر من محض (دردشات) رخيصة عابرة - أقرب إلى ثرثرات المقاهي- ولكن في الوقت ذاته أقلّ من أطروحات أكاديمية أو فلسفية مكتنفة بالإشكاليات المعرفية، والسبب وراء هذه المقايسة يسيرٌ يكاد يكون واضحاً بذاته : الفيسبوك منصّة تواصلية لتعزيز العلاقات البشرية وكبح قيود العزلة القسرية التي قد يعيشها بعض الأفراد لأسباب قاهرة ، ولابأس بالطبع من تبادل المطارحات الفكرية ولكن في حدود لاتنفّر البقية من رعايا المملكة الفيسبوكية. القاعدة الحاكمة في الفضاء الفيسبوكي إذن هي أنّ الفيسبوك أكبر من ثرثرات عابرة وأقلّ من أنساق حجاجية فكرية أو فلسفية كبيرة.
يحصل أحياناً وأنا أقلّب الصفحات الإفتراضية الفيسبوكية أن أعثر على أطروحات فكرية عظيمة الثراء لبعض الكاتبات والكُتّاب ممّن لي معهم سابق معرفة أدبية أو فكرية على الأغلب، وتعقب تلك الأطروحات تعليقات مطوّلة لاتقلّ ثراءً عن ثراء الفكرة المطروحة ، وهنا ينتابني الأسى والأسف و أسائل نفسي: وماذا بعدُ؟ ماذا بعد رمي كلّ تلك النفائس الفكرية في قاع المحيط الفيسبوكي العميق لتودع في محفوظات الذاكرة الرقمية العالمية التي ربّما لن يُتاح معاينتها مرّات أخرى ؟ لماذا يُهدَرُ هذا الجهد الخلّاق واللغة الرائقة المشذّبة في أتون فعالية يبدو مآلها الحتمي إلى غياهب النسيان؟
قد تختلف الإجابات على تساؤلاتي تبعاً لرؤية المرء وأنساقه الفكرية والثقافية ؛ لكنْ يبدو لي أنّ الإحتمال الأكبر هو الآتي : إنّ بعض الأفراد قد ضاقوا ذرعاً بأنماط النشر الإعتيادية التي يكتنفها الكثير من الإشكالات المادية والاعتبارية وبخاصة أنّ هؤلاء الأفراد لايجيدون لعبة العلاقات العامة بسبب تركيبتهم السايكولوجية التي تُؤثِرُ العزلة وتُبدي نفوراً طبيعياً من سياقات العمل غير اللائقة مهنياً وفكرياً؛ لذا نراهم يلجأون إلى النافذة الفيسبوكية لتفريغ شحناتهم الفكرية في فعل هو أقرب -ربّما- إلى النكاية بدور النشر التي تعتمد النشر الورقيّ التقليدي ، ولعلّ هؤلاء الأفراد يطمحون من خلال تعزيز الأطروحات الفكرية (القوية) في الفضاء الفيسبوكي إلى تدشين عصر رقميّ يتقبّل الأفكار القوية والرصينة في وسائل التواصل الإجتماعي حتّى لو تطلّب الأمر تعديل مدوّنة الأعراف الفيسبوكية وجعلها تتقبّل الأفكار غير الطارئة والبعيدة عن المونولوجات الشخصية.
نحن على أعتاب ثورات فكرية لانملك صورة لها في وقتنا الحاضر ، ولاأظنه بعيداً ذلك اليوم الذي سنشهد فيه بزوغ (أفلاطون) رقميّ من غياهب الذاكرة الفيسبوكية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram