ستار كاووش
حملتُ صور لوحاتي التي ثَبَّتُها في ملف صغير، وتوجهت الى أحد الغاليرهات وسط مدينة أمستردام، وقتها لم يمض على دخولي هولندا سوى بضعة أيام. تطلعتُ من خلال الواجهة الزجاجية الجميلة، فبهرتني الإضاءة الجميلة للغاليري والأعمال الفنية الموزعة بإنسجام كبير. سحبت نفسي ودخلت بكل ثقة لأواجَه برجل أنيق وأمرأة جميلة كانا يجلسان حول طاولة صغيرة توزعت عليها بعض الكتب الفنية مع كأسين مليئين بالنبيذ الأبيض، كان يبدو عليهما الثراء، فالمرأة جميلة وأنيقة وعطرها يملأ المكان، في حين يلقي الرجل بلوفر صوفي على ظهره، وقد عقدَ الكَمَّين حول صدره بطريقة تشبه ما يقوم به الأثرياء الذين يمارسون لعبة الغولف. حين إنتبها لدخولي إبتسما مرحبين، فتشجعتُ لأتقدم وأبادلهما التحية قائلاً، بأني رسام وأود أن أعرض عليهما لوحاتي، عسى أن يكون لي حيز في هذا المكان الجميل. نظراً الى بعضهما والتفتا نحوي من جديد، ليقول الرجل وهو يبتسم، لقد دخلت المكان الخطأ أيها الشاب، وقبل أن استجمع قواي كي أتَبَيَّنُ الموضوع، سألني بطريقة يبدو فيها إنه يعرف إجابتي مسبقاً (هل تعرف الرسام كارل أبل؟) فأجبته، أعرفه بالتأكيد، فهو أشهر وأعظم رسام حي الآن في هولندا. عندها قال لي وكأنه يلقي رمانة يدوية نحو ملف اللوحات الذي أحمله (حتى كارل أبل لا يمكنه العرض في هذا الغاليري) وهنا تراءى لي أن الرجل بدأ يُصَعِّب الموضوع أكثر من اللازم، بل بدا الأمر غير منطقي! فعدتُ لسؤاله، ولماذا لا يستطيع أفضل رسام في هولندا العرض في هذا الغاليري؟ فأجابني بكل برود وهو يرتشف جرعة صغيرة من النبيذ (بكل بساطة، لأن هذا الغاليري مخصص فقط لأعمال الفنان كورنيه!) عندها إنتبهتُ فعلاً الى أن كل اللوحات وطبعات الغرافيك وبعض المنحوتات الملونة الصغيرة هي من صنع الفنان كورنيه. وهذا الغاليري لا يعرض لأحد سواه، وعليَّ أن أعرف هذا التقليد الذي تتبعه بعض الغاليريهات في هولندا. أومأتُ برأسي تحية لهما وهممت بالمغادرة، لكنهم سألوني بنوع من التعاطف، إن كان بإمكانهم رؤية أعمالي. وبعد الاطلاع عليها قالوا، إنها جميلة ويوجد غاليري في نهاية شارع قناة الزهور يمكن أن تكون لي فرصة هناك.
كان هذا أول درس لي في التعامل مع قاعات العرض الهولندية، فهنا عليك أن تعرف نوع المكان الذي تذهب اليه ونوع اللوحات التي تلائم الغاليري، ثم تختار التوقيت الجيد والطريقة المناسبة لدخولك والحديث مع صاحب الغاليري.
مرَّت السنوات وعرضت في الكثير من الغاليرهات والمتاحف، وأصبحت لديّ خبرة جيدة في هذا المجال، لأدخل قبل فترة قصيرة الى غاليري كبير وأنا أضع في حقيبتي ثلاثة من الكتب التي صدرت عني في هولندا. وهناك أخذ صاحب الغاليري ببنطاله الاصفر الفاقع ينظر اليَّ وأنا أتحدث، يتابع يدي التي تتحرك مع الكلمات ويراقب وجهي ويتفحص ما أقول، وبين هذه وتلك يشرد ذهنه أحياناً وهو يفكر، عندها سألته إن كان هناك شيئاً ما؟ فأجابي بكلمات ودودة، بأن كل الرسامين بشكل عام لديهم مواهب، وبكل الأحوال سأتطلع لأعمال الرسام بعد أن أتعرف عليه، لأرى إن كانت أعماله تنسجم مع تقاليد أو خيارات الغاليري أم لا، لكن الأهم بالنسبة لي قبل كل هذا هو الرسام نفسه، كيف يتعامل وكيف يقدم نفسه، وكيف يتحدث عن لوحاته، شخصية الرسام مهمة جداً بالنسبة لي، وسيكون من المدهش أن صاحبَ ذلك موهبة كبيرة.
وهذا درس جديد تعلمته الآن من التعامل مع أصحاب القاعات. وبين هذا الدرس وذاك هناك الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالإنغماس بالعمل وتطوير الموهبة وقيادتها نحو طريق صحيح ومناسب. فلا شيء يـأتي هكذا عفو الخاطر، وكل متحف وغاليري ومكان عرض، له ما يناسبه. ولم أعد أتذمر حين لا يهتم صاحب غاليري أو متحف بأعمالي، فثقتي بنفسي وبأعمالي تجعلني أعرف إن المسألة ليست شخصية، وإنما وبكل بساطة لأن هذا المكان متخصص بعرض أعمال من نمط آخر وأسلوب مختلف عن أسلوبي في الرسم.