طالب عبد العزيز
في صورتها الجميلة، المتداولة على صفحات الفيسبوك، تبدو ليلى العطار، الفنانة، التي قتلتها الطائرات الامريكية، أيقونة عراقية بامتياز. الوقفة الشامخة، والنظرة العارفة المؤدية، والعينان البابليتان الواسعتان، بقلم الكحل المرسوم بعناية، والصدر المكتنز انوثة، من غير فائض في اللحم .. لا أريد أن أبدو حسياً، أكثر مما تستدعي لحظة الكتابة هنا، لكنني، أجد أن زمناً عراقياً قد إنهار لحظة مصرعها، وهناك مبنى حلمي للجمال كبير، تهاوى.
شخصياً، لم يكن لي حديث معها، فهي منال بعيد، لكنني، أتذكر أنني رأيتها، جالسةً بباب قاعة بغداد للفن التشكيلي، الكائنة عند مدخل شارع الرشيد، من الجهة المقابلة لچيقمقچي، بائع الاسطوانات الشهير، يوم ذاك. إلى الآن، يمكنني استنشاق رائحة سيكارة (الكِنْتْ) البيضاء، الطويلة، التي عرفت بتدخينها، كان ذلك ربما في نهاية الثمانينات. لم تكن إمرأة فنانة، رسامة، جميلة حسب، وقد تكون أقل شأناً من فنانين، كثيرين، في بغداد، حاضرة التشكيل العربي بامتياز، إنما كانت الصورة الكاملة، التي سوّقت في لوحة، بوصفها معنى من معاني الجمال العراقي والإفراط فيه.
وسواء أكان الطيارالامريكي، الذي استهدفت طائرته مبنى المخابرات الملاصق لمنزلها، قد أدرج المنزل، ضمن رحلته المشؤومة تلك، أو لم يدرجه، إلا أنه أتى على لحظة فارعة في الجمال البغدادي.هذه التحفة العراقية، التي كانت قائمة صباح ومساء، كل يوم، بباب قاعة بغداد للفن التشكيلي، لعلنا، لا نستحضر حياتها في البيت، لكنَّ الصورة الباهرة، التي كانت تزين أغلفة المجلات الثقافية والفنية آنذاك، لم تكن عابرة في الحياة العراقية. يقول بعض نقاد الفن بانَّ أعمالها كانت تشي دائماً بإغتراب وحزن عميقين، وعادة ما تتخذ من الطبيعة موضوعاً، وهناك، في أعمالها، وسط الصمت، ثمة جسد يتجه نحو الشمس، وأن عزلتها بلاحدود. ويمكننا جعل صورة حياتها وأعمالها وموتها أيضاً في برواز واحد، ألا وهو العناق الابدي مع الاشجار الجرد، ومع الأرض المحترقة.
مع أنَّ الجميع يقطعون بعدم عائدية صورة بوش الاب لريشة ليلى العطار، وقد تقع حادثة مقتلها خارج المشهد السياسي كله، وأن قدراً سخيفاً كمن لذائقتنا وراء ذلك، لكنَّ تسويق إدارة صدام حسين للحادثة على أنها بسبب الرسمة، كان الاكثر إيلاماً، فقد شاءت المؤسسة الفنية-السياسية أن تعطي صورة أخرى للوحشية الامريكية، هناك، العشرات من الفنانين، الذين لا تبحث الطائرات عن منازلهم، لأنها لا تلاصق مبنى المخابرات، وكثيرون هم، الذين رسموا صورة صدام حسين، فليرسمها أحدهم.
بعد أكثر من ربع قرن على مقتلها نجد أن أي معاينة مخلصة لأعمال ليلى العطار، تعطينا فضاءً في الحرية، لا حدود له، فهي ترسم الجسد الانثوي مجرداً، عالقاً على جذع شجرة، في غابة محترقة، وظلت روحُ الانثى في أعمالها مطلقةً، واثبة، بين لحظتين واهنتين من الثبات والترنح في آن. لم يئن لجمالها استباحة الكون بعد، مع انه كان مهيئاً لذلك، مثلما لم تقْدر الألوان على النفاذ الى بصيرتها بالكامل، ولا يمكننا النظر الى ليلى العطار فنانة ، رسامة جميلة، ذات تبغدد بالغ الوقع، هي لحظة عراقية صادمة لنا، نحن الذين ما زلنا نتطلع الى الجمال في صورة مطلقة على جدار.