شاكر لعيبي
نعرف اليوم المعنى المعاصر للرقص، لكننا نجهل معناه القديم.
الرَّقَصُ في اللغة هو الارتفاع والانخفاض. وقد أَرْقَصَ القومُ في سَيْرِهم إِذا كانوا يَرْتَفِعُون ويَنْخَفِضُون؛ قال الراعي (وإِذا ترَقَّصَت المَفازةُ غادَرَتْ رَبِذاً يُبَغِّلُ خَلْفَها تَبْغِيلا) معنى تَرَقَّصَت ارتفعت وانخفضت وإِنما يرفعها ويخفضها السرابُ. لذلك فإن أول سطر يطالعك في لسان العرب في معنى الفعل الرَّقْص والرَّقَصان هو الخَبَب، أو ضرْبٌ من الخَبَب، رَقَصَ يَرْقُص رَقْصاً، وأَرْقَصَه. ورجل مِرْقَصٌ كثير الخبب؛ أَنشد ثعلب لغادية الدبيرية (وزاغ بالسَّوْطِ عَلَنْدىً مِرْقَصا). وقال مالك بن عمار الفُرَيْعِيّ (وأَدْبَرُوا، ولَهُمْ من فَوْقِها رَقَصٌ، والموتُ يَخْطُرُ، والأَرْواحُ تَبْتَدِرُ). والراكب يُرقِصُ بَعِيرَهُ يُنَزِّيه ويَحْمِلُه على الخَبَبِ، وقد أَرْقَصَ بَعِيرَه. وأَرْقَصَت المرأَة صبِيَّها ورَقَّصَته أي نَزَّتْه. ورَقَصَ الشرابُ أَخَذَ في الغَلَيَانِ. والشراب يَرْقُص، والنبيذ إِذا جاش رَقَصَ؛ قال حسان (بِزُجاجةٍ رقَصَتْ بما في قَعْرِها، رَقَصَ القَلُوصِ براكبٍ مُسْتَعْجِل).
وأخيراً رَقَصَ اللَّعَّابُ [وهنا اللعَّاب هو الراقص الحالي] يَرْقُص رَقْصاً، فهو رقَّاصٌ. والمعنى أن اللعّاب أي الراقص يرتفع وينخفظ. وهذا ما قد نراه اليوم في الرقص العربيّ المُسمّى بدوياً (بتعميم غير سليم تماماً)، الارتفاع والانخفاض. لكن فهل شاع اسم الرقّاص أكثر من اسم الراقص تعبيراً عن فكرة رقصنا الحالية؟ كلاهما في الغالب. نَقل الجاحظ في مناقب الترك عن فارس بارع "كيف أصنع بفارسٍ يملأ فروج دابته منحدراً من جبل، أو مصعداً في مقطعٍ عفير، ويمكنه على ظهر الفرس ما لا يمكن الرقاص الأبلَّىَّ على ظهر الأرض". ويذكر التوحيدي أن "للخط الجميل وشْياً وتلويناً كالتصوير، وله التماع كحركة الراقصين" وينقل مرة اسم أحدهم: (ﻏﺯﺍل ﺍﻟﺭﺍﻗﺹ). وينقل الراغب الأصفهانيّ أن "المصعب الهندي قال هذا البيت في الرقاص (عجبت من رِجْلَين يتبعانه - يعلوهما طوراً وتعلوانه كأنّ أفعيين يلسعانه)، وقيل لجارية رقّاصة: أفي يدك عمل؟ قالت: لا، إنما هو في رِجْلي". وينقل أيضاً "وحكى أن علوية الشاعر اجتمع عليه الصوفية وقالوا له: أنت أنشدت (طاب لنا الرفض بغير حشمه)؟ فقال: إنما قلت (طاب لنا الرقص)، فرضوا عنه وانصرفوا".
فهل عرف الأقدمون نوعاً واحداً من الرقص؟ لو أخذنا لسان العرب دليلاً من جديد، لقلنا عرفوا أنواعاً عديدة: الدَّرْقَلة رقص سريع غالباً دَرْقَلَ القومُ دَرْقَلة ودَرْقَعوا دَرْقَعة إِذا مَرُّوا مَرّاً سريعاً. ودَرْقَل رَقَص. وقدم فِتْيةٌ من الحَبَشة على الرسول يُدَرْقِلون أَي يرقصون؛ قال والدَّرْقَلة الرَّقْص. والدِّرَقْلة لُعْبة للعجم مُعَرَّبة [ولعلها تعني الرؤساء در كله]. لذا يمكن أن يكون هذا الرقص جماعياً. ثم لدينا البَحْشَلة رقص الزنج المذكور، من البَحْشَل والبَحْشَلِيُّ من الرجال وهو الأَسْود الغليظ، وهي البَحْشَلة. بَحْشَلَ الرجلُ إِذا رَقَصَ رَقَصَ الزِّنْج. ثم الزَّنْفَلة التي هي في الأصل أَن يتحرَّك في مشيه كأَنه مُثْقَل بِحِمْل. وزَنْفَل في مشيه تَحَرَّك كالمُثْقَل بالحِمْل. زَنْفَلَ الرجلُ إِذا رَقَصَ رَقْصَ النَّبَط. وصورة الإنسان الماشي تحت وطأة ثقل قد تعطينا صورة عن هذا الرقص الذي كان الفلاحون في العراق وبلاد الشام يمارسونه. ولدينا رقص الفَنْزَجُ الذي في الغالب يشبه رقص الأكراد اليوم. لأن الفَنْزَجُ في (القاموس المحيط) هو رَقْصٌ لِلعَجَمِ يَأْخُذُ بعضُهُم بيَدِ بعض مُعَرَّبُ: بَنْجَهْ. وعند تفتيشنا عن (پنجه) في القاموس الفارسيّ نجدها تعني الاحتكاك.
فهل تساهم النساء بأنواع الرقص هذه؟ في الغالب الأعمّ. تبيّن تصاوير الجوسق العباسيّ الشهيرة أننا نرى في إحداها غالباً رقصة الزَّنْفَلة، حيث امرأة تحمل ثقلاً على رأسها.