اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: لوحة جواد سليم على الدينار العراقي

باليت المدى: لوحة جواد سليم على الدينار العراقي

نشر في: 16 فبراير, 2019: 06:50 م

 ستار كاووش

ترى هل فكرَّ جياكوميتي حين كان يتحسر على مائة فرنك يتدبر بها شؤونه الحياتية، أن صورته الشخصية ستطبعُ لاحقاً على نفس العملة ذات المائة فرنك؟ كذلك وضعت صورة أحد أعماله النحتية على الوجه الآخر لذات العملة! جياكوميتي، هذا الفنان السويسري الذي عاش أربعين سنة في مشغله الباريسي، لم يكن متذمراً من حياته التي طغى عليها العوز والفاقة، بل كان مؤمناً بعظمة إبداعه ومكانة فنه في كل مرة يتحسس فيها منحوتاته ويشرد مأخوذاً بسحر نحافتها، ليعود بعدها للسير وسط شوارع باريس، يلتقط أسرار المارة وإنتقالات أقدامهم على الطريق، يحضر دفتر سكيتشاته ويجلس على الناصية وعيناه تتحركان يميناً ويساراً نحو عابري السبيل وهم يتناوبون على السير بإتجاهات متباينة، ليثبت حركاتهم السريعة علـى الورق، ثم يعود مجدداً الى مشغله، يتفحص الطين الذي هيئه ليلة البارحة، ويبدأ العمل علـى شخوصه الموغلين في غياب أبدي، ليتحول هذا المكان المنعزل المترب الى إشراقة ملهمة في عالم الفن، وإنعطافة نحو طريق جديد غَيّـَرَ تفكيرنا الجمالي الى الأبد.
سويسرا تضع وجه جياكوميتي المليء بالتجاعيد، كوجه للبلاد السعيدة التي لا تعرف حروباً ولا مطاحنات بين الملل. هذا البلد الذي يَضُمُّ جميع عملات العالم وأرصدته في خزانات مصارفه، يختار صورة نحات لم يكن يهتم بمظهره كثيراً ليكون صورته أمام العالم. وهنا تقدم لنا سويسراً واحداً من دروس الإحتفاء بالفن والثقافة.
أما هولندا التي أعيش فيها منذ سنوات طويلة، فأَوَّل ما لفت إنتباهي بيومي الأول فيها، هو رؤيتي بورتريت الرسام العظيم فرانس هالس على ورقة العملة ذات العشرة فلورينات. تصورت وقتها كيف أن ملايين الناس تمسك مثلي بهذه العملة بين أصابعها كل يوم، وهي تتطلع الى وجه صاحب (الفارس المبتسم)، هولندا كلها من الشمال الى الجنوب تتناقل صورته بينها، ليعيش هذا الرسام من جديد وسط الناس الذين رسم لأجلهم أجمل أعماله، وأنجز لوحاته التي إمتلأت بشخصيات يشع منها الفرح، وفتيات بوجوه مضيـئة مرحة ووجنات علتها حمرة البهجة.
والأمثلة لا تعد ولا تحصى على ما يعنيه الفن والجمال في هذه المعمورة، لكني لا أريد أن أزعج القارئ الكريم بـأحلام تبدو وردية أزاءَ ما يحدث عندنا من إيغال في إهمال الثقافة والابداع، بعد أن سُدَّت الطرق الجديدة بسبب الجهل (المقدس) لينبثق في النهاية أشخاص من زوايا مظلمة، إستحوذوا بغتة علـى بساتين البلد، وحوَّلوا الأغصان الجميلة المثمرة الى حطب حَرَقَ الجمال، وصنعوا من جذوع الأشجار توابيت للثقافة والتحضر. ولم يكتفوا بذلك، بل إستوردوا أبواباً وأحكموا إغلاقها بوجه الكلمات التي ينبعث منها الضوء.
تُرى هل مازالت الفرصة متاحة لنا لإستعادة بعض الجمال الذي نستحقه؟ نعم، الفرص متوفرة دائماً، والمحاولات موجودة، لكن أغلب الناس مغيبون بسبب السيطرة على عقولهم وإحكام غلق منافذ الضوء حولها.
ألا يستحق جواد سليم مثلاً، أن يوضع واحداً من أعماله على الدينار العراقي؟ فهذا الدينار الذي إنخفضت قيمته بشكل فادح، سترتفع بالتأكيد مكانته المعنوية على الأقل (وهذه أولى الخطوات) حين يحمل واحدة من (بغداديات) جواد النادرة.
يبدو أني أحلم كثيراً، لكن بما أن الأحلام لاتزال مجانية في هذا الزمن الرخيص، فلأحلم إذن ان توضع على عملتنا النقدية جدارية فائق حسن التي تنتصب الآن أمام حديقة الأمة، أو صورة أحد رموزنا الأبداعية والثقافية، مثل السياب، علي الوردي، نازك الملائكة، لطفية الدليمي وغيرهم.
فقبل أن نقف بوجوه سراق البلد ونطالبهم بإعادة الأموال التي استولوا عليها عنوة، علينا أن نعرف أيضاً، كيف نُحَسِّنَ وجه عملتنا التي نتداولها كل يوم، وبذلك نستعيد الجمال ونألفه وندافع عنه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram