ستار كاووش
ترى هل فكرَّ جياكوميتي حين كان يتحسر على مائة فرنك يتدبر بها شؤونه الحياتية، أن صورته الشخصية ستطبعُ لاحقاً على نفس العملة ذات المائة فرنك؟ كذلك وضعت صورة أحد أعماله النحتية على الوجه الآخر لذات العملة! جياكوميتي، هذا الفنان السويسري الذي عاش أربعين سنة في مشغله الباريسي، لم يكن متذمراً من حياته التي طغى عليها العوز والفاقة، بل كان مؤمناً بعظمة إبداعه ومكانة فنه في كل مرة يتحسس فيها منحوتاته ويشرد مأخوذاً بسحر نحافتها، ليعود بعدها للسير وسط شوارع باريس، يلتقط أسرار المارة وإنتقالات أقدامهم على الطريق، يحضر دفتر سكيتشاته ويجلس على الناصية وعيناه تتحركان يميناً ويساراً نحو عابري السبيل وهم يتناوبون على السير بإتجاهات متباينة، ليثبت حركاتهم السريعة علـى الورق، ثم يعود مجدداً الى مشغله، يتفحص الطين الذي هيئه ليلة البارحة، ويبدأ العمل علـى شخوصه الموغلين في غياب أبدي، ليتحول هذا المكان المنعزل المترب الى إشراقة ملهمة في عالم الفن، وإنعطافة نحو طريق جديد غَيّـَرَ تفكيرنا الجمالي الى الأبد.
سويسرا تضع وجه جياكوميتي المليء بالتجاعيد، كوجه للبلاد السعيدة التي لا تعرف حروباً ولا مطاحنات بين الملل. هذا البلد الذي يَضُمُّ جميع عملات العالم وأرصدته في خزانات مصارفه، يختار صورة نحات لم يكن يهتم بمظهره كثيراً ليكون صورته أمام العالم. وهنا تقدم لنا سويسراً واحداً من دروس الإحتفاء بالفن والثقافة.
أما هولندا التي أعيش فيها منذ سنوات طويلة، فأَوَّل ما لفت إنتباهي بيومي الأول فيها، هو رؤيتي بورتريت الرسام العظيم فرانس هالس على ورقة العملة ذات العشرة فلورينات. تصورت وقتها كيف أن ملايين الناس تمسك مثلي بهذه العملة بين أصابعها كل يوم، وهي تتطلع الى وجه صاحب (الفارس المبتسم)، هولندا كلها من الشمال الى الجنوب تتناقل صورته بينها، ليعيش هذا الرسام من جديد وسط الناس الذين رسم لأجلهم أجمل أعماله، وأنجز لوحاته التي إمتلأت بشخصيات يشع منها الفرح، وفتيات بوجوه مضيـئة مرحة ووجنات علتها حمرة البهجة.
والأمثلة لا تعد ولا تحصى على ما يعنيه الفن والجمال في هذه المعمورة، لكني لا أريد أن أزعج القارئ الكريم بـأحلام تبدو وردية أزاءَ ما يحدث عندنا من إيغال في إهمال الثقافة والابداع، بعد أن سُدَّت الطرق الجديدة بسبب الجهل (المقدس) لينبثق في النهاية أشخاص من زوايا مظلمة، إستحوذوا بغتة علـى بساتين البلد، وحوَّلوا الأغصان الجميلة المثمرة الى حطب حَرَقَ الجمال، وصنعوا من جذوع الأشجار توابيت للثقافة والتحضر. ولم يكتفوا بذلك، بل إستوردوا أبواباً وأحكموا إغلاقها بوجه الكلمات التي ينبعث منها الضوء.
تُرى هل مازالت الفرصة متاحة لنا لإستعادة بعض الجمال الذي نستحقه؟ نعم، الفرص متوفرة دائماً، والمحاولات موجودة، لكن أغلب الناس مغيبون بسبب السيطرة على عقولهم وإحكام غلق منافذ الضوء حولها.
ألا يستحق جواد سليم مثلاً، أن يوضع واحداً من أعماله على الدينار العراقي؟ فهذا الدينار الذي إنخفضت قيمته بشكل فادح، سترتفع بالتأكيد مكانته المعنوية على الأقل (وهذه أولى الخطوات) حين يحمل واحدة من (بغداديات) جواد النادرة.
يبدو أني أحلم كثيراً، لكن بما أن الأحلام لاتزال مجانية في هذا الزمن الرخيص، فلأحلم إذن ان توضع على عملتنا النقدية جدارية فائق حسن التي تنتصب الآن أمام حديقة الأمة، أو صورة أحد رموزنا الأبداعية والثقافية، مثل السياب، علي الوردي، نازك الملائكة، لطفية الدليمي وغيرهم.
فقبل أن نقف بوجوه سراق البلد ونطالبهم بإعادة الأموال التي استولوا عليها عنوة، علينا أن نعرف أيضاً، كيف نُحَسِّنَ وجه عملتنا التي نتداولها كل يوم، وبذلك نستعيد الجمال ونألفه وندافع عنه.