لطفية الدليمي
العقول المغلقة على حيثيات موروثة ثابتة تماثل الأماكن الموصدة التي تستدعي الخوف وأشكالاً من الرعب، وتلتوي داخلها الفراغات الحبيسة، يتعرج منطق الكلام وشذا العطر ونبر الصوت والحبّ الممنوع ، ويتشوه شكل الهواء ويتخذ الزمن شكل ورم زائد عن الحاجة.
تلبث الذاكرة في المحتجزات تجتر ماتملكه من ترسبات الماضي، فالحاضر عاطل ولا شيء يحدث والغد ملغىً في الحجز المتعسف.
تستولد المغلقات هلوسات وأفكاراً ينضجها الصمت وتكاثرها العزلة ، فتكبر وتنتفخ وتتوتر ثم تنفجر وينهمر منها خليط من الصور والكلمات والرموز والمعاني المبهمة الملتوية التي يستولدها هلع الاحتجاز.
في الاحتجاز تحدث تشوشات الأفكار انزياحاً في المعاني فالكلمة لاتعني ذاتها بل قد تشير الى ضدها ،يغدو السكون ضجيجاً مروعاً، وينكسر داخل المغلقات حسَ الافتتان بالجمال ويتزلزل الوعي ،لا مسافة بين البدء والمنتهى، داخل المحتجز تتشوه جغرافيا المكان : يتقوس المستقيم، يستقيم القوس ويتسطح الأمل على سفح مراوغ منحدر حتى الهاوية ، وتضطرب الجهات كلها : تنتحر البوصلة..
في جميع أشكال الاحتجاز القسري توجه السلطة استيهامات الكائن نحو الغرق في تجريدات مضببة تنتجها الذاكرة والمخيلة المضطربة، تتحد الذاكرة والمخيلة في ضفيرة مختلطة من رموز وصور تعزز الوهم ويعوم الكائن في بركة من استرجاعات الماضي باعتباره فردوساً مفقوداً ( كان حدث، صار، مر، مات ) ويصادر الحاضر في غمامة الاستذكار المشوش و التخيلات الخادعة، وتقمع كل رغبة ولا يحدث شيء سوى النكوص، ويبقى العقل والجسد معزولين عن الفعل التواصلي في الزمن المتدفق خارج المحتجزات.
تفرض سلطة الحظر والمنع على الكائن وضعاً خارجياً هو الحجز ووضعاً داخلياً هو التحلل في الركود، وتستولي الرهبة على الكائنات البشرية وتحيطها بهلام الخوف ، وللخوف في المغلقات أفواه ماصّة كتلك التي لأخطبوط الأعماق ، ترى - ما الذي سيؤول إليه الكائن المعرض للامتصاص والتحلل وهو لا ينجز لوجوده سوى استحضار ماضٍ انقضى وزال ؟ يتحول إلى مخلوق (رخويّ) عائم في سائل مضاد للتطور والتواصل.
تقول الفلسفة الهندية : ( ذلك الذي يفهم لديه أجنحة) إذن ،الكائن المحصور والمحرمة رغباته والمحظورة أحلامه - بما أنه لا يحلّق لانعدام الأجنحة فهو محروم من الفهم ومحجوب عن الرؤى ، يكابد في معزله موتاً خاصاً لتوقف عملية الامتداد في المكان والزمان ، رغم أنه يتوهم بوجود جدار وقاية يحميه من الفناء بالمخاطر الخارجية وراء أسوار المغلقات.
يتوهم الناس في المحتجزات ملاذاً من عدوان متوقع ، فالمغلق يمنع المرء من المجازفة و الوقوع في خطأ التقديرات التي قد تفقده حياته ولا صيغة مفتوحة داخل المغلق سوى صيغة الوهم ، حيث تنطوي اللغة على مفردات مستهلكة ابتذلها الاستخدام ولاتنولد كلمات جديدة باستثناء كلمات التهديد ولايُسمع صوت سوى صرير المزاليج والأقفال والسلاسل، فتتضخم أوهام المحتجزين وترسخ استسلامهم لاشتراطات الحجر.
تتضامن في الحجز سلطة الحجارة والأسمنت والمعادن مع سلطة الرعب والاستسلام لتعزز سلطة الحظر والتحريم، وتصطدم في المغلقات وهجات الوعي مع آليات الرعب فتتوالد أسراب من الكلمات الهلامية في رأس الكائن. يتحول العالم الداخلي إلى صور ورموز مشوشة ، بعضها من خزين الذاكرة وأقلها من نتاج الحلم بينما يمضي العالم قدماً خارج المحتجزات.
تدعي كل سلطة مستبدة أن المغلقات توفر أمانا لمواطنيها ، وتسوغ الحجر بإدعاء حماية الجموع العاجزة عن إدراك مصلحتها من اختراقات العدو، وعلى الجموع أن تتقبّل قدرها وترضى بسلطة تدير حياتها بالوكالة وعليها أن لا تجزع فالسعادة لا تنتجها الحرية وإنما تأتي من قبول الكائنات بأقدارها!!.