ستار كاووش
لم أُفاجأ كثيراً باليافطة الجديدة التي عُلِّقَتْ على الكنيسة المجاورة لبيتي، والتي تشير الى أنها معروضة للبيع. لأني أقرأ وأسمع كل يوم، الاخبار التي تقول ان الكثير من الكنائس قد توقفت عن العمل وعرضت للبيع، حتى وصل العدد الى ألفين كنيسة بيعت أو مازالت معروضة للبيع في هولندا حسب الأحصاءات الرسمية. عدد صادم، بل مهول فعلاً! حتى كاد البلد يخلو من الكنائس، بعد أن إشتراها الناس وتحولت مهمتها من أماكن للعبادة الى واحات للنشاطات العصرية والحياتية المختلفة، فهذه الكنائس ببناياتها وأبراجها التأريخية ومعمارها الجميل ونوافذها الزجاجية المليئة بالرسومات المعشقة بالرصاص، بيعت الى أشخاص وجهات مختلفة لتغدوا متاحف ومؤسسات ثقافية ومقاهي وغاليرهات وصالات للعروض الموسيقية وورشات عمل وحتى بيوت، بعد أن عرف الناس ان البلدان لا تُبنى عن طريق دور العبادة، بل بالعمل والابتكار والجهود الحثيثة نحو التنمية وتطوير المواهب والامكانات الفردية للناس. لهذا فرغت هذه الاماكن من مرتاديها لتتحول الى اشياء اخرى نافعة، بل أكثر نفعاً من المهمة التقليدية للكنيسة ذاتها. والكثير من هذه الكنائس عرضت للبيع بطرق جميلة ومبتكرة. مثل الكنيسة التاريخية الموجودة في مدينة خروننغن، والتي عرضت للبيع مقابل يورو واحد فقط، شرط ان يقدم من يريد الحصول عليها، مشروع مبتكر، وكان من ضمن المتقدمين شابان صغيران، إقترحا تحويلها الـى متحف إسمه (متحف الشاي)، فمنحتهما البلدية هذه الكنيسة، ليصبح المتحف خلال فترة قصيرة، واحداً من اطرف واجمل متاحف هولندا حيث يتسابق الناس لزيارته.
وبسبب مواقعها المثالية، وما تضمه بداخلها من إيقونات ولوحات وأعمال فنية اخرى، فقد إرتبطت هذه الكنائس مع الناس بشكل عاطفي، لذا إشترطت وزارة الثقافة أن يُحافَظُ على قيمتها التاريخية والمعمارية. وأصدرت كتيباً صغيراً يحتوي على الكثير من النصائح والأرشادات التي توضح وتساعد على كيفية إعادة إستخدام هذه الكنائس بشكل مناسب، وفي ذات الوقت تضيء السبل الكفيلة بالحفاظ عليها كآثار معمارية والأعتناء بإدامتها.
لكن هل إنتهت الحكاية عند هذا الحد؟ بالتأكيد لا، فهناك مفارقة ترتبط بالموضوع، بل مفارقة كبيرة جداً، وتتعلق بالمسلمين في هولندا، والذين ما زالوا يطالبون الحكومة الهولندية بتمويلهم والسماح لهم ببناء المزيد من المساجد داخل هولندا!
وأنا أفكر بهذه الكنائس التي تم إغلاقها، وتلك المساجد التي يراد فتحها، إستعدتُ زيارتي السابقة لبغداد، وكيف ذُهلتُ من (الصور) المطبوعة التي تنتشر في كل مكان، وتشير حسب نظر الناس الى بعض الأئمة الصالحين. أصابتني الحيرة وقتها وأنا أضع أولى خطواتي داخل بيت أهلي، بسبب الصور التي داهمتني -والمطبوعة أغلبها في أيران- وهي معلقة على جدران البيت بمهابة فيها الكثير من الغلو، تتوزع بينها يافطات بكتابات (مقدسة). تأملتُ الصور المطبوعة التي تتصدر الجدران، ثم إجلتُ بصري داخل غرفة المعيشة، فلاحت لي صورة أبي وهي تستقر في الأسفل، مُتَّكِئة على إحدى الطاولات دون إهتمام يذكر، صورة أبي التي تركتها قبل سفري معلقة على أهم جدار في البيت، تُهمَلُ هكذا، في حين إحتلت صور الغرباء الذين لا نعرفهم مكانها. أبي الذي بنى هذا البيت مثلما بنى بيوت كثيرة بحكم مهنته كَبَنّاء، ليس لصورته مكان في ذات البيت الذي بناه! هكذا إستحوذ أصحاب هذه الصور الدخلاء على جدران بيتنا وأزاحوا صورة صاحب البيت، ليقيموا هناك بطريقة ذكرتني بطائر الواق واق الذي يستحوذ على أعشاش الطيور الأخرى.
رحل أبي، لكن صورته تلك، بقيت في ذهني دائماً، إنها تلاحقني رغم إحتفاظي بنسخة منها. نعم لقد ذهبَ أبي بعيداً بعد أن إرتفعت بين يديه الكثير من الجدران والبيوت، وبقي هؤلاء الغرباء الذين طبعت صورهم في مطابع دولة مجاورة، يستولون علـى الحيطان والمنازل والعقول!