لطفية الدليمي
لم يزل مفهوم الثقافة في سياق المقاربة الأنثروبولوجية يعني جِماع كلّ الرأسماليات الرمزية الملازمة للأنساق الفكرية والمادية التي تنشأ مع كلّ حضارة بشرية خاضعة لمحدّدات الجغرافية والزمان ، ولاشكّ في أنّ كلّ حضارة بشرية تتوفّر على عناصر ذات خصوصية مميزة تَسِمُ الأنساق الثقافية السائدة في العالم.
ثمّة عنصر محدّد أضحى الأكثر تأثيراً من سواه في تشكيل الأنساق الثقافية العالمية منذ عصر النهضة الأوروبية ، وهو عنصر ( العلم ) الذي أصبح القوّة الثورية القادرة على إعادة رسم الخارطة الثقافية في العالم ،بعد أن ساهمت تطبيقاته التقنية في الإرتقاء بنوعية الحياة البشرية عبر تذليله معوّقات مسيرة التطوّر الإنساني وفتح آفاق غير مسبوقة من الممكنات أمام العقل البشري .
تتجلّى علاقة العلم بالبنية التحتية للثقافة في علاقة ثلاثية الأطراف تدعم بعضها في سياق علاقة تكاملية تتطوّر مع الزمن :
الطرف الأوّل : كَوْنُ العلم - وتطبيقاته التقنية المتسارعة - الأداة الأولى المعتمدة في خلق الثروة في عالمنا المعاصر بعد أن كانت الثروة قائمة على الملكيات العقارية الضخمة ، ثمّ صارت تعتمد على الموارد الطبيعية في وقت لاحق قبل إنفجار الثورات العلمية المتتالية التي تُوِجت بالثورة المعلوماتية .
الطرف الثاني : هو أنّ الثقافة ممارسة بشرية تختصّ بالكائنات التي غادرت منطقة الحاجات البيولوجية البدائية ، ونعلم بلا أدنى ريب أن العلم هو القوة الأساسيّة التي حرّرت الإنسان من عبء العمل الميكانيكيّ الرتيب ووفّرت له الكثير من الوقت والمال اللازمين لكلّ ممارسة ثقافية .
الطرف الثالث : هو أنّ العلم بذاته ليس محض قوانين ومعادلات رياضياتية حسب؛ بل هو توليفة متكاملة ومتناسقة من أنساق مفاهيمية تمنح الفرد القدرة على رؤية العالم بطريقة متمايزة نوعياً عمّا يراه الفرد غير المؤهّل علمياً ، وتنعكس آثار هذه الرؤية على كيفية تشكيل الثقافة إلى حدّ أصبحنا معه نشهد الكثير من المنظّرين الثقافيين وممارسي الثقافة المؤثّرين من الحائزين على أرقى المؤهلات العلمية في الفيزياء والرياضيات وسواها .
وبقدر مايختصّ الأمر ببيئتنا العربية ، يبدو لنا أنّ هناك إختلالاتٍ هيكلية عميقة الجذور تمكّنت من رسم معالم الأنساق الثقافية العربية ودمغتها بتلك السمات المعروفة عنها وهي - في معظمها - تتمحورُ حول إعلاء شأن الإشتغالات النسقية الفكرية العتيقة وترسيخ سطوتها ، وتقليدية المناهج الدراسية وتخلّفها ، وغَلَبَة الدراسات اللغوية التقليدية التي جعلت اللغة العربية أقرب إلى ألاعيب حُواة تعتمد على الفذلكات بدل جعلها عاملاً مساهماً في النهضة الثقافية الشاملة عبر تطويعها المهذّب والمتناسق مع التطوّرات الثقافية العالمية .
لايمكن هنا فصل التأثير المتبادل المفترض بين العلم والأنساق الثقافية في المشهد العربي عن نمط مصادر الثروة لدينا ؛ إذ لازال العلم يُعَدّ عند كثير من الأوساط إشتغالاً فوقياً بعيداً عن ملامسة قاع البنية التحتية للثقافة ، وتتعاظم معالم هذه ( الفوقية ) كلّما كان الاقتصاد ريعياً لايتطلّب تفعيل الإشتغالات المعرفية التي تحرك الاقتصاد المبشر بايجاد وفرة مالية كافية لإدامة زخم الثقافة وارتقائها.
إنّنا مُقبلون خلال عقدين من الزمان على عصر غير مسبوق ستكون فيه المعرفة العلمية الرفيعة والدقيقة ركناً أساسياً من مشهد الحياة اليومية فضلاً عن الثقافة بكلّ أنساقها المتنوّعة ، ولن يكون ثمّة متّسع لمن لايجعل المفاهيم العلمية ركناً اساسياً وجوهرياً في ثقافته وحياته اليومية مثل : الدماغ المعزّز بالقدرات الإحتسابية ، الذكاء الإصطناعيّ العميق ، الهياكل وخوارزميات البيانات ،و الحوسبة الكمّية ،،، الخ .