طالب عبد العزيز
أنا في بغداد سائح، مثل كل العرب، الذين يأتونها في مهرجانات الشعر والفنون. بالامس حدثني أصدقاء من الأهواز زاروا معرض الكتاب، وجاءوا مبهورين، فرحين وفي المعرض التقيت أصدقاء من السعودية والخليج، وحدثوني عن جمالها، وعن ناسها وشوارعها وحدائقها وأسواقها العامرة. وأمس أخذني، وبالزورق، عبر دجلة فارس الكامل، صاحب مكتبة ودار المعقدين، البصري، البغدادي الى شارع المتنبي، هو دلني على طريق النهر، الذي ما كنت لأسلكه لولاه، لولا خبرته البغدادية.
فوجئت، أنا السائح، المهووس بصورة بغداد الأسطورية، بحشد الناس على ضفتي دجلة، بالراقصين داخل العبّارة، الراسية عند تمثال المتنبي، في القشلة، وسراي الحكومة القديم. هناك حلم عربي بامتياز، ما زلت اسمعه من الأصدقاء العرب، يقول بأن معاينة بغداد والوقوف على دجلة، من جهة السراي، والتقاط صورة مع تمثال المتنبي يعني لهم خاتمة الأحلام، ومع أنني لم التقط صورة للمشهد الخلاب، إلا أنني، احتفظ لعيني بحق تكرار الحلم الجميل هذا، فأنا في بغداد سائح، لا يعرفني فيها إلا القليل من الاصدقاء.
تعلمت من محمود عبد الوهاب(القاص) بأن لا أثق بالعين السائحة، فقد كان يصفها بالخداعة، وهي عنده، تخفي من حقيقة المدن الكثير، ومع أنني مغرم بالخدع، بل واحبّها، فسوف أتحدث عن خديعة بغداد لي ، إذ سأرتضي لقدمي بأن تحملني الى شارع المتنبي والى قيصرية الحنش، لأسمع هناك أغاني مائدة نزهت وسليمة مراد وهناء خزعل، وسأصعد مكتبة ودار المدى، لأستمع الى الناقد يسين النصيّر وهو يتحدث عن فاضل العزاوي، وسأذهب الى مكتبة الرافدين، لألتقي صاحبها الناشر محمد هادي، وقد أترك ذلك كله، لأذهب مصغيا لأبي نؤاس في شارعه الأجمل، الذي يتخذ من دجلة العظيم منامة له، ولأقول له بأنك الأجمل بين شوارع الدنيا، وسأدخل الكرادة، وسأغض طرفي عن كل ما لا تحب معاينته، ولن أصغي لحديث الناس، الذين يشتمون الحكومة علناً، إنما سأتنفس رائحة القهوة، التي تنبعث من مقهى ومكتبة بن رضا علوان، الذي بات محجة المثقفين العراقيين.
ليس كل الذين يقصدون شارع المتنبي شرّاء وقرّاء كتب، قليل منهم ربما من يكون الكتاب همهه وغرضه، وأعلم أن بينهم المئات، الذين يستعرضون (عشقهم) للثقافة، ولن أتردد في وصفي لهم إنهم استلطفوا أجواء المكان، الذي لم يعد مكتبة كبيرة، أبداً، وجاءوا. هو كرنفال ثقافي بامتياز، كل زاوية في المتنبي(الشارع) تريك في بغداد قطعة الأمل القادمة، عشرات الآلاف يطوفون يوم الجمعة، حول تمثال المتنبي، يقصدون السوق الباهرة، هم يعرفون بعضهم بحكم الترداد المتكرر، لذا سأكون خبيثاً، لأسأل عن عدد الذين تركوا المسجد والحسينية وجاءوا المتنبي، ثم لأبحث عن سبب آخر في ذلك، ألا نرى فيهم تحولاً بالغ الأثر، هلّا بحثنا في أسباب هجرانهم لترهات الأحزاب الاسلامية بشقيها معاُ، حيث يجتمع البغدادي القادم من ضواحي بغداد كلها هنا، في جمعة خالصة للوعي، وتداول المعرفة، وقراءة الكتب، وسماع الموسيقى، وتحدي التشدد، وابتكار المحاولات في نفي الظلام . ألا ترون أن المسجد السنّي مغلق على أهل السنة، وحدهم، والمسجد الشيعي مغلق على أهل الشيعة، وحدهم .. لكن المتنبي مفتوح للجميع؟ أليس في ذلك أبلغ الرسائل، لأقول بأن بغداد العظيمة وشارعها المتنبي ودجلة الخير والناس، الذين هنا إنما يمنحوننا الدرس الأبلغ في معاينة عراقنا القادم؟