طالب عبد العزيز
شربت قهوتك، وأطلت الجلوس، في صالة البيت، حيث الكل يغطُّ في سريره الآن، ذهبت الى فيروز، فسمعتها تغني عن الصباح، وتصفحت بريدك ... لا شيء يستحق، ومنذ أن كانت الشمس باردة على القرميد، كنت تقطع الممر الواسع، الذي يفصل البيت والحديقة عن دارة الخطار، مفكراً في ما تكتب، وفي ما يتوجب عليك فعله. تدخل غرفة مكتبك الصغيرة، تفتح النافذة، ابتغاء سماع شيء من أصوات الطبيعة، عندليب مما تركت موجة الملح، عصفورمما خلفت العاصفة، فاختة.. لكنك تعجّل في أغلاقها، كان صوت بائع الخضار هو الاقبح، في فضاء ما حولك. الوقت يمضي، ومحرر الجريدة ينتظر مادته منك.
أكثر من عشرين كتاباً على منضدتك، هي مما تشتريه، أومما يُهدى إليك من الأصدقاء، تنتظر التصفح والمعاينة ، ومن ثم البت في صلاحية بقائها، أو دخولها كهف المكتبة، الى الابد، تأسف لأنك لم تحظ بعلاقة حرة ومتهتكة مع امرأة، يوم كنت صبياً، هذا ما فعلته بك قراءةُ كتاب هازل رولي(سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر- وجهاً لوجه – الحياة والحب) -الكتاب يروي علاقة الحب والجنس والكتابة بين الكاتبين، الفيلسوفين، سارتر وبوفوار- ثم تحتقر كلّ ما كتبت، تشمئز من كل كتاب بين يديك، لأنك لم تمت شاعراً في سن مبكرة، مثلما مات طرفة بن العبد وشندور بتوفي وارثور رامبو. الكتابة في الصحف بخاصة، يالها من مهنة محزنة، أكلّ هذا الشقاء، من أجل ورقات خضر ثلاث ؟
شعرتان بيضاوان على حاجبك الأيمن، تقبّحان مظهرك في المرآة، أنت تتطلع في وجهك كثيراً، منذ أن استبدلت طقم اسنانك بالسيراميك، تبحث في دُرُجٍ كثيرة عن ملقط، تنتزع به ما يضجرك من البياض التافه هذا، فلا تجده. وفي بحثك اليومي تصطدم بحشد (الدروع والاوسمة والعطايا التافهة) يا لهذه المنح المعدنية، التي تضعها في واجهة أرفف مكتبتك، دروع من النحاس الوسخ، وكتب شكر كارتونية، وباقات ورد بلاستيكية، أقلام حبر صدئة وعلب عطر نافدة، وأشياء أخر، بلا معنى، تؤثث بها مكتبتك، ومحامل الثياب والمقابض، وفي الزوايا المهملة، وامكنة نائية عن يدك، أيّ سخف هذا الذي تظنه مجداً ومنجزا. تحرّك الترس النحاسي القذر عن موضعه، كتبوا فيه( تقديرا لجهدك ومنجزك وعطائك... ) تبحث عن كتاب حجبه النحاس عنك، أي خراء هذا، الذي يصنعه طبّاعٌ خرفٌ، في سوق الورق البائدةن التي بالعشار، لكي تحتفظ به أنت؟
هناك من ينتظر منك رأياً في قصيدته، وأنت لمّا تجهِّز فطور الفلاح بعد، والطابعة على منضدتك تعيق تحرك فأرة الحاسبة، أنت تعيد تهذيب الأحرف على الصفحة البلورية، تشكل همرةً، وتضمُّ راءً، وتكسرخاطر الله. كلما دنت الطابعة من حافة المنضدة أعدتها الى موضعها الأول، والفأرة تنطُّ تحت كفّك، تسأل عن الجحر الصيني الذي خرجت منه، فتلعنها، الكتابة.. يا لها من مهنة سخيفة، الشعر ياله من قبح وبؤس. وهذا الكرسي، فقد من شهر إحدى قوائمه فتميل بك، تميل حتى يخالط ضجرَك صريرُه. لو أغلقت النافذة، صوت بائع الخضار يقترب، ومثله يأتيك صوت بائع غاز المطابخ، وهدير مركبة الشحن العملاقة، تعبر الجسر مسرعةً، يا الله، ما هذا؟ عن أي القصائد تحدثني؟