لطفية الدليمي
تراه من بعيد : كائناً متثاقل الخطى يحمل على منكبيه عبء سنوات من الطهرانية اليوتوبية التي حفلت بها عقود الأدلجة الفكرية في خمسينيات وستينيات وبعض سبعينيات القرن العشرين ؛ فصار كمن يعيش في مطهر أرضي لايستطيع معه فكّ وثاقه مع مواريث الآيديولوجيا الغاربة ، ولايستطيع التعامل مع قوانين الحياة الجديدة بسبب مفاعيل البيولوجيا والخلايا الدماغية المتعبة بفعل تراكمات الزمن .
تُطِلُّ على شاشتك الحاسوبية في مواقع التواصل الإجتماعي فتعرف الكائن الآيديولوجي بين الألوف المؤلّفة من طريقته المميزة في التعبير وكيفية صياغة عباراته التي تبدو نحتاً في حجر الصوان لكنها تشي بروح فائقة الهشاشة - روح خذلها الماضي ويأبى الحاضر أن يفسح لها موطئ قدم للتصالح معه حتى في إطار علاقة موهومة أو متخيلة . كائن هلامي ، إذن ، هو هذا الكائن الآيديولوجي الذي يعتاش على وقود الذكريات العتيقة كمن يريد تحريك قطار كهربائي حديث بفعل قوة البخار التي جعلت الحركة تدبّ في عجلات قاطرة ( ستيفنسون ) الإنكليزية البدائية . لاالذكريات تأبى الإنزلاق لقعر الذاكرة لكي يتآكلها النسيان ، ولاالروح بقادرة على تخليق آيديولوجيا بديلة عن تلك الغاربة . إنها حكاية نوستالجية أتلفت حياة الكثيرين وحرمتهم بعض هناءة ممكنة في عيش الحاضر والتعامل مع ممكناته المستجدة .
هل الآيديولوجيا قدر مقدّر على الإنسان ؟ وقبل هذا ، هل الكائن البشري مخلوق آيديولوجي في المقام الأول ؟ وإذا كانت الآيديولوجيا في مرتسماتها الأساسية صناعة غربية ؛ فلِمَ لانشهد إذن هذا الإنكسار العقلي والسايكولوجي لدى الغربيين ( لديهم إنكسارات كثيرة لكنها غير آيديولوجية الطابع ) ؟ تلك أطروحة فكرية ضخمة بحق ، وسأتناول جانباً منها فحسب.
يبدو واقعنا العربي قاسياً منذ بواكير نشأته التأريخية الأولى ، وربما لعب غياب الحبّ داخل أسَرِنا دوراً مرضياً ( باثولوجياً ) في روح الأفراد إلى حدّ جعل منهم ثقوباً سوداء تلتهم كلّ مايمنحها فعلاً تعويضياً عن غياب الحب ، والأفراد هنا رجال ونساء على حد سواء مع بعض الميل الطبيعي لجهة النساء بسبب كون الحب يمتلك مفاعيل أقوى في روح الأنثى لاعتبارات سايكولوجية محددة وأخرى تفرضها الترتيبات المجتمعية ، ولما كان الحب الطبيعي غائباً أو مغيباً بصورة قسرية فسيكون البديل الطبيعي هو حب شيء ما : فكرة أو هدف أو غاية أو سياسة أو حزب ،،، الخ ، ونحن نعرف أنّ بيئتنا لم تعمل على ترسيخ قواعد وأخلاقيات عمل رصينة - بسبب الإضطرابات السياسية في المقام الأول - تعين المرء على تلمّس خطواته بثقة ؛ لذا ستكون النتيجة المتوقعة أن يندفع الشاب في الإنتماء الحزبي المتعجّل الذي يَعِدُهُ بمكانة ومستقبل لايستطيع بلوغهما عن طريق التراتبية الهادئة القائمة على العمل الجاد والمنظّم ، والشباب في أغلبه الأعم متعجّل يريد بلوغ أهدافه بكلّ الوسائل المُتاحة .
الآيديولوجيا بهذا المفهوم تعمل في الشباب بمثل مايفعله الحب فيهم ؛ فنراهم يندفعون في شرب أنخاب الآيديولوجيا حتى الثمالة، ثمّ تستحيل الآيديولوجيا لديهم معشوقاً يغضّون الطرف عن العيوب المحتملة فيه ولايرونه إلا كمثال الكائن المكتمل في ذاته، وإذا ماحصل أن إنكسرت صورته لسبب من الأسباب فسيجعلهم هذا الأمر كائنات معطوبة عصية على المداواة .
لو دققنا في تأريخنا الفكري وقرأنا عن ظاهرة الحبّ لدى الإغريق وكيف عدّوها ضرباً من الجنون الشامل المؤقت لكان بمستطاعنا معرفة بعض الأسباب التي دفنت الكثيرين تحت التراب أو جعلت منهم كائنات معطوبة الروح لاتقوى على مواجهة الواقع بجرأة وعقلانية .