ستار كاووش
نصف ساعة هو الطريق الذي يفصل بين مرسمي وقرية خيتهورن، خمسون كيلومتراً فقط تقطعها السيارة، لأكون وسط ما يسمى بأجمل قرية في هولندا، هذا المكان الصغير الذي يزخر بقنوات مائية عديدة ومن كل الجهات، تتقاطع مع بعضها هنا، وتلتقي هناك، وسط حدائق صغيرة وبيوت ملونة، كأنها خرجت تواً من كتاب مدهش للقصص الخرافية أو أفلَتَتْ من فيلم كارتوني ساحر. ليس للملل نصيب في هذه القرية، ولا مكان للحيرة أو الشكوى، فمظهرها الشبيه بقطعة حلوى صُنِعَتْ في بيوت الفلاحين، يعيدنا الى عطر الحكايات والطبيعة، ونوافذ بيوتها التي تحتضن الزهور وتغفوا على حافات الماء، تأخذنا الى لوحات فناني عصر الباروك الهولندي.
السيارات تُركَنُ في مواقف معينة عند عتبات القرية، لتكتمل الخطوات نحو هذه الأعجوبة من خلال مراكب صغيرة تتهادى وسط الماء او مشياً على الأقدام بماحاذاة السواقي الملونة التي أحاطتها بيوت الأهالي ومزارعهم الصغيرة. لا ترى هنا سوى الزهور المتدلية من الشبابيك الملونة، والقنوات المائية التي تعلوها عشرات القناطر الخشبية التي يتنقل الناس فوقها من جهة الى أخرى بخفة وسلاسة.
استيقظ سكان القرية تواً عند وصولي اليها صباحاً، وفي هذا الوقت بالذات، لا تسمع سوى همس القوارب التي تنساب بنعومة وسط الماء والعشب، بينما تستقر أشعة الشمس الذهبية فوق هامات الناس الذين بدأوا يتوافدون الى المكان. هذه المرة قررت أن لا اقضي الوقت في مركب، بل فضلت التجوال والتعرف اكثر على تفاصيل وأسرار هذه الجنة، فإخترت مقهى مرتفعة نوعاً ما، وجلست أراقب المكان والمارة وراكبي الزوارق الصغيرة الملونة التي تشبه فتيات بمقتبل العمر بتنورات مزخرفة في واحدة من حفلات منطقة درينته، وهنا بَسَطَ اللون الأزرق للماء والسماء نفوذه على المكان، بينما اطمَئَنَّ الأخضر وسط ذلك بهيبته التي تشبه روح الفلاحين ومجد ثمارهم التي تشير الى خصب الحياة وبهجتها.
السائحون يتخاطفون في كل مكان، ويدخلون أحياناً الى أماكن خاصة، تابعة لهذا البيت أو تلك المزرعة، دون درايتهم بحدود وخصوصية الممتلكات، وذلك من فرط جمال المكان الذي بدا متاحاً للجميع. لهذا لجأت بعض العوائل الى كتابة بعض اليافطات الطريفة على أبواب مزارعهم أو بيوتهم، تشير الى أن هذا المكان خاص، والأطرف من ذلك أن بعض هذه اليافطات قد كتبت بلغة عربية وصينية، وهذا مؤشر الى كثرة السائحين العرب والصينيين الذي يزورون المكان وهم شاردي الذهن عند (إقتحام الأماكن الخاصة).
المتعة شيء أساس في حياتنا، ومنها نبع الابداع والفن والحضارة، وهي موجودة في إحدى زوايا هذه الحياة وعلينا فقط إيجادها، أو حتى إختراعها ان إقتضت الضرورة، لتكون بمثابة خارطة طريق لأيامنا، ومرآة تعكس توق أرواحنا للمغامرة والجمال والفتنة. وهذه القرية هي واحدة من إختراعات الجمال الهولندي الذي لا يتوقف عند حدود، حيث وُظَّفَتْ الطبيعة لخدمة الأنسان وإمتزجت مع روحه وخياله وما يصبو اليه، وهنا طَبَّقَ الهولنديون عملياً دعابتهم الشهيرة التي يشيرون فيها الى ما صنعوه في بلادهم، حيث يقولون (الله قد صنع العالم، ونحن قد صنعنا هولندا).
وأنا أهمُّ بعبور إحدى القناطر، لمحتُ زورقاً صغيراً غطت مقدمته مجموعة كبيرة من الزهور البيضاء، فإلتَفَتُّ الى الجانب لألمح عروساً تستعد للزفاف في هذا الزورق الرومانسي صحبة عائلتها، فَلَوَّحتُ لهم بيدي وأكملت طريقي نحو الجهة المقابلة التي تفضي لمتجر كبير يعرض أنواعاً مختلفة من الأحجار الملونة التي يقتنيها الزائرون كتذكارات من القرية.
طبيعة ساحرة أضيفت لها بعض التفاصيل، ورتبت بشكل جيد مع مجموعة من المقاهي والمطاعم، وتحوّلت أجزاء من بعض الحدائق الى مخيمات للمبيت، مع متحف صغير وبضعة متاجر، إضافة الى مرافيء صغيرة لتأجير الزوارق، لتتحول هذه القرية الى معجزة جمالية نادرة. هكذا قضيت النهار في خيتهورن، لأعود الى مرسمي بعد أن إمتلأت روحي بالأزرق والأخضر وما بينهما من درجات ستنعكس حتماً على لوحاتي القادمة.