لطفية الدليمي
لايتوقف المفكرون لدى أطروحة أقاموا عليها مجدهم، بل إنهم غالباً ما يتفحصون أطروحاتهم ويخضعونها للنقد بناءً على التحولات الحاصلة حولهم ووفقاً لتغيُر رؤيتهم للعالم وحراكه المستمر، وتتبدل مواقف بعض هؤلاء المفكرين تبعاً لمؤثرات كثيرة تركت مفاعيلها في رؤيتهم المستجدة، ولايُسمى هذا التحول تراجعاً أو تلوناً كما يحصل لدينا، لسبب بسيط هو أن أمثال هؤلاء المفكرين لايؤمنون بالمطلق والنهائي ولايقدسون الفكرة الثابتة بل يشبعونها تقليباً وتفحصاً لغاية تصحيحها أو تجاوزها.
يجري التصحيح عادة عند متابعة التطبيقات المختلفة للنظريات والأفكار وقياس نتائجها واختبارها مثل النظرية الاشتراكية والنظرية الرأسمالية ، فتطبيقات الرأسمالية ليست متماثلة وهناك صيغ متعددة لها في بلدان مختلفة، والصين على سبيل المثال زاوجت بين تجارة السوق والاشتراكية على الطراز الصيني، بمعنى أن بوسع النمط الاقتصادي الإشتراكي الحيلولة دون التغول الرأسمالي البشع، فقد كشف التطبيق النيوليبرالي الراهن عن خلل كبير في التطبيق وأفضى الى تغيير القناعات إزاء المواقف الاقتصادية والإنسانية عموما.
أقرّ أحد أكبر منظري الليبرالية بضرورة اكتشاف أفق اشتراكي جديد مختلف عن التطبيقات السابقة ويبدو أنه العلاج الأفضل لمرض كوكبنا المميت في المرحلة الراهنةعلى أقل تقدير، فقد صرح ( فوكوياما ) في تسجيل صوتي له على موقع تابع لجامعة ستانفورد يديره شخصيا بما يلي : " لم يستوعب البعض المفهوم الأصلي لـما عنيته بـ "نهاية التاريخ "، ولم يقرؤوا كتابي "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" المنشور عام 1992 جيدا ؛لذا فإن هدفي هنا تفسير هذه النظرية وشرح ما كنت أقصده والتغير الذي طال تفكيري منذ ذلك الحين.من الغريب أن مسار التاريخ خلال 30 عامًا تقريبًا لم يؤدِّ للتطور الذي كنت أظن أنه سيحدث وقتها "
يراجع فوكوياما بنظرة جديدة عنوان مقاله الأصلي ليبرهن لقرائه أنه أراد أمراً مختلفاً من عبارة " نهاية التاريخ " ويقول : عنوان مقالي الأصلي "نهاية التاريخ "الذي نشر في صيف عام 1989. كلمة التاريخ التي وردت في عنوان كتابي كنت أقصد بها ما قد يسمِّيه الناس اليوم التطور أوالحداثة. وعبارة " نهاية التاريخ "عنيت بها: الغاية من التاريخ - لا نهايته؛ وما هي غاية عملية التقدم أو الحداثة ، لقد فُهِمَت أطروحتي خطأ "
صحيفة النيوستيتسمان البريطانية نشرت حوارا مع فوكوياما وعنونت الحوار " يجب أن تعود الاشتراكية " ، ويبدو أن صاحب أطروحة " نهاية التاريخ " قد أعاد قراءة ما خلُص إليه (ماركس ) من تحليله للأزمة الرأسمالية وخرج برؤية مختلفة تماما حول فهمه المغاير للإشتراكية المنافسة اللدود للديموقراطية الليبرالية على أساس نظرته الجديدة وتفسيره الراهن لمفهوم التاريخ، ويخشى فوكوياما في حواره من اندلاع (حرب أمريكية صينية )، وها نحن نرى اليوم الصراع الاقتصادي والثقافي بين القوتين الذي قد يتحول إلى حرب حقيقية نتيجة الزحف الصيني الاقتصادي والثقافي الجائح بعد تحقق مشروع ( الحزام والطريق) وتوغل الصين في الاقتصاد الآسيوي والأفريقي وصولا إلى معاقل القارة الاوروبية.
من المدهش أن يعترف فوكوياما المنظّر البارز للرأسمالية والمنتقد الشرس للإشتراكية بأن التحليل الماركسي للأزمة الرأسمالية كان صحيحا بشكل أساسي، و" أن السعي الجامح لاقتصاديات السوق الحرة نحو الربح أدى إلى إفقار جماعي وإلى الهيمنة الكاملة على العالم من قبل الأوليغارشية الرأسمالية المتوحشة فاحشة الثراء. وعلينا تدارك الامر والا سيدفع الجميع الثمن"
ليت جميع المنظرين يعترفون بما يكتنف نظرياتهم من سوء فهمٍ ويغيرون طروحاتهم كما فعل فوكوياما أخيراً.